«بريكسيت».. خيار خاطئ

01:45 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

بعد أيام سيقترع البريطانيون لجهة بقائهم في الوحدة الأوروبية أو خروجهم منها. سيكون للقرار تأثير كبير ليس فقط في بريطانيا، وإنما في أوروبا والاقتصاد العالمي. هنالك تجربة بريطانية رائدة خلال عقود ستقيّم دولياً، وبالتالي يمكن أن تشكل نموذجاً مستقبلياً للعلاقات بين الدول ليس في أوروبا وحدها وإنما عالمياً. الموضوع الذي يطرح نفسه هو لماذا يصوت البريطانيون على هذا الموضوع؟ هل تعاني بريطانيا اقتصادياً من وجودها في الوحدة؟ أم هنالك أمور أخرى تدفعها إلى التفكير في الطلاق المكلف والمزعج والمتهور؟ إذا نظرنا إلى الإحصاءات البريطانية، نرى أنها جيدة ولا تبرر هذه المغامرة غير المحسوبة في نتائجها.
في مؤشر النمو، يرتفع الناتج المحلي الحقيقي البريطاني فوق ال 2% سنوياً بدءاً من سنة 2013 وحتى 2017 تبعا لصندوق النقد الدولي في وقت تعاني خلاله معظم الدول الأوروبية مشاكل أكبر بكثير. هذا لا يعني أن بريطانيا خائفة من أن يكون مصيرها اقتصادياً كأوروبا، خاصة وأن أحد أسباب نموها الجيد هي علاقتها التجارية والمالية مع القارة. بريطانيا تستفيد من القارة أكثر من العكس عبر اعتماد لندن كعاصمة مالية للقارة وعبر تأمين سوق أوروبية كبيرة للصادرات البريطانية. تعتبر الليرة الإسترلينية من أقوى العملات بفضل العلاقات التجارية كما بسبب الاستثمارات العالمية المزدهرة في الاقتصاد البريطاني. الاستقرار السياسي البريطاني هو من الأفضل عالميا ويؤثر كثيراً في الاقتصاد.
في الفترة المذكورة أعلاه، لم يتعد نمو منطقة اليورو 1,5% مما يعني أن الوضع البريطاني أفضل من المعدل ومن أكثرية الدول الأعضاء. نسبة البطالة البريطانية كانت 5,4% وهي ممتازة وتقارب النسبة الأمريكية وأدنى من معظم بطالة دول أوروبا. موازنة بريطانيا عاجزة في حدود 5% من الناتج وهي أعلى من النسبة الأمريكية البالغة 3% علما ان نسبة الدين العام من الناتج البريطاني هي 80% مقارنة ب 107% للولايات المتحدة وبنسب أعلى بكثير في العديد من الدول الأوروبية. باختصار الوضع الاقتصادي البريطاني جيد ويوازي على الأقل الوضعين الأمريكي والأوروبي. فلا مبرر للهلع التغييري الذي يمكن أن يضر بمستقبل الدولة والشعب.
ما هي الأسباب الأخرى التي يقدمها مؤيدو الخروج من الوحدة لإقناع البريطانيين بالتصويت للخروج وهل هي مقنعة؟
أولا: يقول المعارضون للبقاء في الوحدة إن العضوية لم تكن مفيدة نسبة للتكلفة. تشير الإحصاءات إلى غير ذلك أي إلى ارتفاع التجارة مع أوروبا بنسبة 55% كما إلى ارتفاع الإنتاج وخاصة الإنتاجية. أما التكلفة فلا تتعدى 0,5% من الناتج. الوحدة الأوروبية هي السوق الكبرى لبريطانيا بسبب الجغرافيا والتاريخ دون أن يمنع ذلك بريطانيا من توسيع علاقاتها مع الولايات المتحدة ودول الكومنويلث وغيرها من المناطق. في الحسابات البسيطة، الفوائد الاقتصادية تفوق حتما التكلفة. واقعياً انضمت بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة في سنة 1973 ووافقت على اتفاقية 1986 التي خلقت السوق الواحدة بدءاً من سنة 1993. بريطانيا لم تنضم إلى اتفاقيتي «شنغين» بشأن الحدود كما إلى اتفاقية «ماستريخت» التي أسست للوحدة النقدية الأوروبية. استفادت بريطانيا من السوق الأوروبية الواحدة، فاذا جمعنا الصادرات والواردات البريطانية نسبة للناتج بالأسعار الثابتة نرى أنها ارتفعت من 25% في سنة 1957 إلى 35% في سنة 1985 والى ما يفوق 60% اليوم. خروج بريطانيا من الوحدة يمكن أن يعرض صادراتها لضرورة إيجاد أسواق جديدة ربما تكون بعيدة جدا عن حدودها.
ثانيا: يقول المعارضون إن أوروبا تأمر بريطانيا وبالتالي استقلال بريطانيا هدد ومهدد مستقبلاً أكثر. تشير الوقائع إلى عكس ذلك، إذ إن هنالك عدداً قليلاً من القوانين البريطانية الذي قرر أو عدل بسبب أوروبا. عانت الوحدة الأوروبية وخاصة منطقة اليورو أزمات كبيرة لا يظهر أن بريطانيا تأثرت بها كما تشير إليه أرقام النمو الإيجابية. يقول المعارضون إنه من السهل على بريطانيا إيجاد بدائل للسوق الأوروبية إذا قررت أوروبا إقفال أو تشديد حدودها. لا يمكن التأكد من ذلك اليوم إذ إن للمناطق الأخرى شروط يمكن أن تكون قاسية بل أقسى من المطلوب أوروبياً. من الممكن أن تدرس بريطانيا تجارب دول أخرى خارج الوحدة وكيفية تعاملها معها. في التجربة النروجية مثلاً، وجدت منطقة أوروبية تضمها إلى الوحدة تستفيد النرويج من السوق لكنها تخسر بعض السيادة من ناحيتي التجارة والهجرة. أما المثال السويسري الذي بنى علاقات ثنائية، فاحتفظ بالسيادة لكنه خسر السوق أو جزءاً منها. هنالك المثال التركي حيث تبقي تركيا على سياسة الهجرة لكنها لا تنعم بفوائد وحجم السوق الأوروبية بالإضافة إلى بعض القيود. باختصار ليس هنالك غذاء مجاني، أي يجب أن تختار أي دولة بين البقاء مع كافة المنافع أو الخروج والخضوع للشروط المقيدة .
ثالثاً: هنالك مشكلة محتملة كبيرة على صعيد أسواق العمل بالاتجاهين وهذا ما يخيف ملايين العاملين من البريطانيين والأوروبيين. تضييق أسواق العمل يمكن أن يحصل وسيتضرر الفريقان منه خاصة في هذه الظروف التي يمكن وصفها بالمتشنجة والتي تنتج عنها تصرفات غير عقلانية أو حتى متطرفة. هنالك قلق بالنسبة للعاملين في بريطانيا ومصيرهم وحقوقهم، وبالتالي يمكن أن ينعكس الخروج سلباً على الأسواقالمالية.
هنالك 3 مصادر جدية ومهمة قيمت خسارة بريطانيا السنوية من «البريكسيت» وهي جامعة لندن ومؤسسة أوكسفورد الاقتصادية وشركة «برايس ووترهاوس كوبرز» للتدقيق المحاسبي والاستشارات. تقدر جامعة لندن الخسارة السنويةب 2,5% من الناتج، وأوكسفورد ب 4% منه. أما الثالثة، فتقديرها هو 3,5%. كل هذا بانتظار أن توقع بريطانيا على علاقات واتفاقات جديدة تعوض عن الخسارة الأوروبية التي ستكون كبيرة.
إذا كانت الخسائر الاقتصادية واضحة، فما الذي يدفع بعض البريطانيين إلى الاقتراع نحو الخروج؟ لا شك أن الأسباب سياسية واجتماعية بالإضافة إلى الخوف الذي يؤثر سلباً في التفكير الهادئ باتجاه المستقبل. يخاف البريطانيون من الهجرة المؤثرة في الاستقرار علماً أن ما حصل في فرنسا وأورلاندو الأمريكية مخيف حقاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"