«شارك».. مفهوم جديد ألغى معنى «الخصوصية»

04:26 صباحا
قراءة 4 دقائق
عائشة عبد الله تريم

«من بعد إذنك، أريد أن أغلق الباب قليلاً لأتحدث بالهاتف». لا أظن أن هذه العبارة كانت إلى وقت غير بعيد مستهجنة، ففي كثير من الأحيان يحتاج المرء لأن يغلق على نفسه الباب ليتحدث في موضوع خاص لا يرغب في أن يسمعه الآخرون. وكذلك كنا، حين نحول الأحداث التي تخزنها ذاكرتنا إلى كلمات نصوغها على الورق ثم نضعها في درج أو في صندوق ونحكم إغلاقه...
إنَّ ما كنا نقوله وما كنا نخطه، كان من الأشياء الثمينة التي نحتفظ بها ونرعاها لأن لها قيمتها وخصوصيتها. ولم نكن نفعل ما نفعل لأجل أن نعرض ما لدينا للعيون وننتظر التعليقات مستمتعين بذلك. لقد كنا نتكتم على خصوصياتنا وكأنها كنز نادر لا يحق لأحد أن يلمسه إلا من يملك مفتاحه...
تلك الأيام ولت، وذهبت معها الصناديق والأدراج المقفلة، وتراجع حاملوها ليفسحوا الطريق أمام جيل يرفع لواء جديداً مغايراً تماماً لذلك الذي رفعناه، فجيل الثورة الرقمية يرفع لواء «شارك» ولا يأبه لمعنى كلمة «خصوصية».
«شارك» في كل شيء والغِ القفل عن صندوق الخصوصية ليظلَّ مفتوحاً على الملأ، «شارك» حياتك بأدق تفاصيلها ليقرأ أصدقاؤك ويرون في ساحة الفضاء الإلكتروني كل اللحظات والذكريات والمحادثات التي تمر بها وتعيشها.
ترى؟ هل بات مفهوم «الخصوصية» مشوهاً إلى هذه الدرجة؟ كيف شرَّع رواد التواصل الاجتماعي من مغردين و«إنستغراميين» و «سناب شاتيين» أبوابهم وسمحوا بدخول الآلاف إلى غرفهم؟
الطفل الذي يولد اليوم في كوكب الإنترنت، يتعلم كيف يدخل كلمة السر في حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يتعلم النطق والكلام. ولو حاولنا أن نوضح لمثل هذا الطفل أن في حياة كل امرئ جوانب خاصة ينبغي أن يحافظ عليها كي يبقى سليماً من الأذى ومن تشويش الفكر، فإننا ننفخ في قربة مقطوعة.
أرى أن خصوصية الأفراد قد ضاعت في معمعة الإنترنت، تلك الخصوصية التي كانت تتمتع بحرمة وقدسية حتى وقت غير بعيد، فقد كانت حقاً من حقوق الإنسان وشرطاً من شروط العيش الكريم، لكن يبدو أن ما كنا مقتنعين به في يوم من الأيام قد تلاشى تماماً، وذهبت أفكارنا في اتجاه آخر لا يحسب للإنسانية حساباً ولا يقيم للحرمة البشرية وزناً. فقد أصبح الناس مهووسين بالمشاركة، وصارت المعلومات والسلوكات اليومية من أكثر الأشياء انتشاراً على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي...
لقد كانت معرفة الأمور الخاصة مهمة شاقة، وكان المختصون يلجأون إلى الحيل والفِكَر العبقرية ليحلوا ألغازها ويفكوا نواجذنا عنها، مع أنهم كانوا في كثير من الأحيان يفعلون ذلك لأجل السلامة العامة وسلامة الأفراد. أما اليوم فلم يعد أولئك الأشخاص في حاجة إلى أي مخطط عبقري لمعرفة تفاصيل حياتنا لأننا نقدمها لمن يرغب ولمن لا يرغب على طبق من فضة، فنحن اليوم من ننشر أخبارنا على الملأ وبكل سهولة من غير تفكير أو اهتمام، ذلك أن محور الحياة بات «شارك» الآخرين كل شيء ليعرفوا عنك كل شيء، وإلا فلن تستمر الحياة!
منذ مدة، وجدت شركة «آبل» الأمريكية نفسها في موقف لا تحسد عليه حين طلب منها مكتب التحقيقات الفيدرالي «أف بي آي» كشف بيانات مستخدمي هواتف «الآيفون» لأسباب أمنية، واحتدم الجدل حول الموضوع لأن الشركة كانت في حيرة من أمرها بين الاستجابة لطلب مكتب التحقيقات الفيدرالي والحفاظ على خصوصيات المستخدمين. لكن ما يؤسف حقاً، أن أغلبية مالكي هواتف «الأيفون» لم يعيروا الأمر اهتماماً، وبدا سيانا بالنسبة إليهم سواء اختُرقت هواتفهم أم لم تخترق! وكثير منهم ظنوا أن الاختراق قد حدث في وقت سابق.
لنكن أكثر وضوحاً وصراحة، هل سبق لأحدنا أن قرأ نشرات اتفاقات الخصوصية الطويلة مع شركة الهواتف والحواسيب قبل أن يوافق عليها؟ وهل فكر أحدنا بما تتضمنه تلك النشرات وحول ماذا يُبرم اتفاقية مع شركة عملاقة قبل أن ينقر على زر «أوافق» ؟
منذ أسبوع واحد فقط، أعلنت خدمة الرسائل في برنامج «واتس آب» الذي يعمل منذ عام 2010، أن المحادثات «الخاصة» التي يجريها أكثر من مليار مستخدم باتت آمنة ! فماذا يعني ذلك ؟ هل كانت معلوماتنا الخاصة ومحادثاتنا الدقيقة مكشوفة للشركة والمخترقين طوال كل هذه السنوات؟ أليس لخصوصياتنا قيمة تذكر؟
خدمة «واتس آب»، تفيد بأن ذلك وارد في اتفاقات الخصوصية التي لا نقرأها ! ثمة سؤال يطرح نفسه ؛ أينبغي أن تكشف لنا الشركة على أنها ستحمينا من الاختراق بعد أن كنا عرضة لذلك؟ أم أن الشركة تريد أن تحتفظ بالمعلومات في مأمن لحين طلبها من جهة ما، كما حدث مع «أف. بي. آي»؟ وهل نحن نهتم كمستخدمين لكل هذه الأمور؟
لقد بتنا وكأننا في عالم نتنافس فيه حول قدرة الفرد على الكشف عن حياته الخاصة، بدلاً من أن نتنافس حول قدرتنا الإنتاجية... «شارك» يكون لك حضور قوي وكبير وتحظى بإعجاب الملايين! من يدري ؟ قد يتحول مفهوم «الخصوصية» أيضاً وأيضاً لنصل إلى درجة نكتب فيها عنها بقلم الحنين والعتاب فيصبح الناظر إليها كمن يرى مخلوقاً غريباً لم يقع نظره عليه من قبل...
كيف سنمنع أطفالنا من التحدث عن خصوصياتهم؟ كيف سنقول لهم «هذا عيب! لا تكتبوا عن والديكم شيئاً في مواقع التواصل الاجتماعي»؟ كيف سنقول لهم إن نشر «الخصوصيات» بين الناس سيجعلكم تندمون في يوم من الأيام؟ وهل سيتعلم أطفالنا في خضم هذا العالم الذي اعتاد أن يكشف المستور معنى الاحتفاظ بالخصوصية؟
يبدو أن علينا إعادة صياغة مفاهيم العيش المشترك، لنعلّم أبناءنا بعدما نتعلم نحن، معنى كلمة «شارك» وفي أي ظرف يجب أن تقال.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"