أحزان الربيع

03:47 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.مصطفى الفقي

عندما يأتي الربيع يختال ضاحكاً، نرى الزهور تتفتح وتكسو الخضرة الأرض التي اختفى لونها تحت وطأة الصقيع الذي مضى، والبرد القارص الذي قصف الزرع وجفّف الضرع واخترق العظام الواهية في قسوة متناهية، أقول ذلك كله لأدلل على روعة الربيع وأهميته في حياة البشر، لأنه تجديد للحيوية وبعث للشباب وتدفق للحياة فكيف تأتيه الأحزان؟! الواقع أن الصورة ليست وردية كما أوردناها، فكما يحمل الربيع معه الرياح المتربة، فإنه يحمل معه أيضاً رياحاً أخرى محملة بالتغيير وهي تلك التي وفدت على المنطقة منذ عدة سنوات وأسميناها «الربيع العربي»، وفي ظني أن الأمر لا يؤخذ على إطلاقه، فقد اختلطت به بعض التيارات المسمومة بما استوجب الخلاص منها وتصحيح المسار، حتى تتجه البلاد في طريقها الذي يتفق مع هويتها وتراثها وتاريخها الطويل، لذلك فإنني أظن أن رياح «الربيع العربي» الذي تحدثنا عنه، والذي بدأ يطال دولتين عربيتين شقيقتين في إفريقيا، هو ربيع يحمل في طياته نزعات إصلاحية مطلوبة، ولكنه أيضاً قد يفتح باباً للعنف الذي لا تتحمله المنطقة، لهذا فإنني اتفق مع أولئك الذين يرون أن «الربيع العربي» لم يكن خيراً كله، ولم يكن شراً كله؛ بل هو يحتاج إلى دراسات متعمقة ومعلومات وفيرة وإجابات واضحة عن أسئلة كثيرة ندرك معها مغزى ما نمر به، وأهمية ما نسعى من خلاله لتقويم تلك الفترة شديدة الحساسية بالغة التعقيد من تاريخ منطقتنا، فأنا شخصياً لا يخالجني شك بأن الجماهير التي خرجت يوم 25 يناير 2011، كانت تحمل أهدافاً شريفة، في مقدمتها المطالبة بالعدالة الاجتماعية ورغيف الخبز والحرية، وظل ذلك دأبها لعدة أسابيع، وأتذكر أن السفير البريطاني في القاهرة قد اتصل بي وقتها، وعبر عن رغبته في زيارتي بمكتبي الخاص بوسط المدينة، وعندما جلس أمامي عبر عن إعجابه الشديد بما فعله الشعب المصري وانبهاره الواضح بوجود مئات الآلاف في ميدان التحرير دون حادث تحرش واحد أو احتكاك طائفي من أي نوع، وبدأ يشيد بالروح التي تابعها - خصوصاً وأن مقر عمله قريب من ميدان التحرير - ويؤكد لي بأن الشباب المصري أصبح نموذجاً يحتذى به في كل الدنيا وأن الذين صنعوا الحضارة في فجر التاريخ يلقنون العالم دروساً جديدة منها، وأضاف الرجل: إن لندن تسألني ما هو شكل الدعم الذي يمكن أن تقدمه المملكة المتحدة لشعب مصر العظيم في هذه الظروف؟ فكانت إجابتي سريعة ومتدفقة فقلت له: التعليم.. التعليم.. التعليم، وشرحت له أن محنة مصر الحقيقية وخفوت دورها الإقليمي، مرتبطان بتراجع النظام التعليمي فيها، وقلت له: إنني عندما ذهبت إلى بريطانيا دارساً في بداية سبعينات القرن الماضي للحصول على الدكتوراه، كان مستوى التعليم المصري متواكباً مع مستوى التعليم البريطاني تقريباً، بشهادتهم عند الاختبار العام للقبول لدرجات الدراسات العليا، وعندما تدهور نظام التعليم في مصر تحت وطأة الأعداد الكبيرة والإمكانات المتراجعة، ظهرت الفجوة الحقيقية التي ملأها التخلف والشعوذة والتطرف، وساد البلاد والعباد ما أصابهما في العقود الأخيرة، فقال لي السفير: ولكن ما هو الاقتراح العملي لدعم التعليم في مصر؟ فقلت: إنني أطالبكم باستقدام الآلاف من المدرسين المصريين لدورات تدريبية في المدارس البريطانية في بلادكم، حتى يعودوا مختلفين عما هم عليه الآن، وقلت له: إن نهضة مصر تاريخياً بدأت بالابتعاث إلى الخارج، وأظنها تستطيع أن تقف على قدميها، باستعادة هذه التجربة من جديد، فلن تنهض مصر بغير صحوة تعليمية تعيد الأمور إلى نصابها.
وقد تحدث الرئيس السيسي أمام رؤساء الدول السابقين في مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، عن التعليم كقضية أولى للبلاد وطلب من وزير التعليم العالي - الذي كان موجودًا في الجلسة - أن يشرح للحاضرين دور الجامعات الأجنبية الكبرى في دعم الجامعات المصرية الوليدة التي يجري إنشاؤها على قدم وساق، وأضاف الرئيس في مرارة: إن بعض الجامعات الشهيرة في العالم ترفض أن تقيم فروعاً لها في الدول الأخرى إلاّ بمقابل مالي لا يحتمل.
إن أحزان «الربيع العربي» متداخلة، ويصعب إنكارها، لكن إرادة المصريين في السنوات الأخيرة، وفي ظل الإصلاح الاقتصادي الجاد والكيان البنيوي الهائل في حركة إعمار وتشييد غير مسبوقة في تاريخ البلاد، سوف تمضي في طريقها دون توقف، لأنهما كفيلان بأن يجعلا مصر كما أقول دائماً (شمس لا تغيب)، بحرارة شعبها، وضياء تراثها وعظمة تاريخها، إن الربيع الذي تغنى به (البحتري)، يطل علينا مجدداً بأحزان الأوطان ومعاناة الشعوب، ليفتح طاقات الأمل وأبواب الرجاء لمستقبل أفضل للإنسان في كل مكان، وأقول مع العم (ماو): دع مئة زهرة تتفتح، حتى نجدد الحياة ونخرج من عذابات القرون بالقيم السامية والروح النبيلة والأفكار البناءة!.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"