أزمة مالي من منظور عربي

03:28 صباحا
قراءة 4 دقائق

ربما كانت هناك قلة تابعت مجريات الأحداث في جمهورية مالي غرب إفريقيا، غير أن امتداد أحداث هذا البلد إلى الجار الجزائري، ثم القيام بتدخل عسكري فرنسي جذب مزيدا من الاهتمام إلى هذا البلد الفقير بسكانه الذين يقاربون 15 مليون نسمة، وبمساحته الشاسعة التي تبلغ نحو مليون وربع المليون كيلومتر مربع . مأساة هذا البلد تتفاقم مع النزاع المسلح الدائر فيه، وبينما بدت الأحداث في بدايتها كنزاع أهلي ضد السلطة القائمة تركز في شمال البلاد، إلا أنه سرعان ما اصطبغ بصبغة عقائدية تفسد أي صراع سياسي، وتطمس الحقوق المشروعة للناس، كما كان الحال في البلد المنكوب الصومال .

أجل، فبينما كان النزاع يدور في الشمال في منطقة ازواد سعياً وراء مطالب تنموية ومن أجل تحقيق لامركزية واسعة وصولاً إلى المطلب بانفصال هذه المنطقة التي يقطنها أغلبية من الطوارق وقبائل ذات أصول عربية (حسانية اللغة)، فإذا بالصراع ينحو منحى معقداً مع دخول قوات وعناصر متطرفة وقفت إلى جانب التنظيم المحلي أنصار الدين ضد الحركة الوطنية في هذه المنطقة . فإذا بهذا الجزء يتحول إلى معقل لسلفية متطرفة تضم ثلاثة تنظيمات من بينها قاعدة المغرب العربي . ليست المشكلة بالطبع في كون هذه الحركات سلفية، بل في كونها تجتذب عناصر من الخارج لغايات جهادية (عسكرية)، وهي غايات ترمي إلى بسط نفوذ سياسي، وينبري أصحابها للنطق باسم البلاد والعباد، ووسيلتها الحرب ولا شيء آخر . ولذلك بدا سهلاً أن تنتقل إلى الجزائر عبر الحدود المشتركة وتقوم باختطاف وحجز رهائن أجانب في هذا البلد . عدم الاعتراف بالحدود وبسيادة الشعوب والبلدان وبالهويات الوطنية، هو ما يسم هذه الحركات الأممية . في غمرة ذلك تختلط الأوراق، فتتمظهر مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية على خلاف حقيقتها إلى صراع مؤمنين متدينين ضد كفار وصليبيين، ثم ينتقل هذا الصراع من بلد إلى آخر، وحيثما وقعت مشكلات واضطرابات في هذا البلد أو ذاك، يجري حرفها وتصويرها على أنها صراع عقائدي، وأن المنازلة تتم مع الكفر وليس أي شيء آخر .

تلك هي المشكلة الكبرى التي تلقي بظلالها الثقيلة على صورة المسلمين وواقعهم في غير مكان، وتغذي ظاهرة فوبيا الإسلام في الغرب وسواه (استطلاع أخير جرى في فرنسا أظهر أن سبعين في المئة من الفرنسيين يتوجسون من الإسلام والمسلمين)، علماً أن مسلمين هنا وهناك هم أول ضحايا هذه المشكلة وأكبرهم عدداً، ولا يدري المرء هنا كيف يمكن إدانة أي تدخل خارجي كما يحدث في مالي حالياً، في الوقت الذي تجيز فيه منظمات متطرفة لنفسها التسلل هنا وهناك، والتدخل في مجرى حياة الشعوب والبلدان، تحت دعاوى الدفاع عن الدين . مع أن المشكلة في مالي ليست دينية، فالمسلمون يشكلون 90 في المئة من السكان وهم الحاكمون على الدوام وفي جميع الأحوال، بل تتعلق برفض دمج الإقليم والمناطق الموروثة عن حقبة الاستعمار، وهو الدمج ومعه التعديلات الحدودية الذي اعترفت به منظمة الاتحاد الإفريقي وبات من كلاسيكياتها .

يغفل أصحاب هذه المجموعات عن كون سلوكهم غير المقبول هذا، يغطي عملياً على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والشعوب تتم هنا وهناك، من طرف قوى محتلة أو أنظمة طغيان دموي، أو جهات إقليمية ودولية تسعى إلى النفوذ، وذلك خلافاً لما تحسبه هذه المجموعات، والسبب في ذلك أن تصرفاتها صارخة واستعراضية، وخطابها يستعدي الآخرين من شعوب وأتباع أديان وعقائد، ولأنها تأخذ الأبرياء المدنيين في الغالب بجريرة المستهدفين غير المدنيين . وما يجري في مالي شاهد على ما تقدم، فقد ضاعت قضية أصحاب الحقوق أو المطالب، واختفت تحت ركام عمليات التطرف، وزاد البلد فقرا على فقر، وانتهك استقلاله وسيادته على يد أكثر من طرف، ولم تتحسن صورة المسلمين بل ساءت، والله وحده يعلم متى يضع الصراع أوزاره، بعد أن وضع سلفيون أنفسهم في مواجهة مع أطراف عديدة وبالذات مع أبناء البلد نفسه . إلا إذا تنادت القوى المحلية إلى حوار جدي بينها برعاية المنظمة الإفريقية والأمم المتحدة بعيداً عن أي تدخل خارجي، وهو ما ينبئ به انشقاق مجموعة من تنظيم أنصار الدين تطلق على نفسها اسم حركة ازواد الإسلامية، ولجوء عدد من قادتها إلى موريتانيا المجاورة، وتأكيدها السعي إلى حل سياسي سلمي . وعلى أمل أن يؤدي تطور كهذا إلى شق الطريق نحو حل سياسي، وليس تكثير عدد المجموعات المتصارعة .

خلال ذلك فإن الأنظار تتجه إلى الدور الذي يؤديه الاتحاد الإفريقي الذي بدأ بنشر قواته بتفويض من الأمم المتحدة في هذا البلد، وهو دور يفترض أن يكون سياسياً ولا يقتصر على التدخل العسكري .

بقي القول: إننا كعرب معنيون في هذا الصراع، ليس فقط لوجود قبائل ذات أصول عربية في شمال مالي، وإنما لأن المجموعات العربية باتت تصنف مع غلاة الطوارق على لائحة المتشددين الساعين لتقسيم البلاد، ما يخشى معه تأجج الصراع واتخاذه طابع صراع عربي إفريقي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"