أزمة نموذج الدولة في الغرب

05:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

عندما يتحدث الأمريكيون عن الخطر الذي تمثله دول مثل الصين وروسيا، لا يشيرون في الغالب إلى تضارب المصالح بين هاتين الدولتين وباقي الدول الغربية الكبرى، ولكن يحرصون في الغالب على التأكيد أن التزايد الهائل للقوة الصينية يمثل تهديداً كبيراً لنموذج الدولة التعددية والديمقراطية في العالم، لأن التطور الاقتصادي والعسكري المضطرد لهاتين الدولتين وبخاصة الصين، قائم على نظام سياسي «شمولي» ويمكن بالتالي لبكين أن توظف تفوقها التقني والاقتصادي من أجل فرض نموذجها على المجتمعات التعددية. لكن هذا الموقف الأمريكي المدعوم غربياً يعمل على التغطية على الأزمات المتعددة الأوجه التي يعاني منها نموذج الدولة في الغرب، الذي انتقل في أقل من قرنين من دولة المبادرة الحرة إلى دولة تهيمن عليها أقليات مرتبطة بمراكز المال والأعمال التي تتجاوز حدود الدول القومية.
إن نموذج الدولة الغربية القائم في جزء كبير منه على الرعاية، يشارف على الإفلاس، بعد أن وصل الدين العام في هذه الدول إلى مستويات قياسية، وباتت الدول عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية نحو مواطنيها، وأضحى هامش حركتها مقيداً إلى أبعد الحدود، بسبب الالتزامات التي تربطها مع البنوك والمؤسسات المالية الدولية، وبالتالي فإنه وبالرغم من كثرة البرامج والمخططات التي تضعها النخب المسيِّرة لهذه الدول، فإنها لا تملك الوسائل الضرورية التي تسمح لها بتنفيذ سياساتها الوطنية.
وتجد الدول الغربية نفسها مجبرة في ظل العولمة، على الأخذ في الحسبان، المنافسة الشرسة مع القوى الصاعدة التي تضع مشروعها المجتمعي القائم على دولة الرعاية في مأزق جدي، وتفرض عليها من ثم، كما يقول لوك فيري في معجمه، مباشرة إصلاحات مؤلمة ترفضها مجتمعاتها، كما حدث مؤخراً في فرنسا مع ظاهرة «السترات الصفراء».
وتكمن المفارقة، كما يذهب إلى ذلك لوك فيري، في أن الدولة تواجه باستمرار التزامات ومطالب ملحة ومتصاعدة من أجل الإصلاح من جهة، وتتضاءل كل يوم الإمكانيات المتاحة لديها التي تسمح لها بإنجاح مثل هذا الإصلاح، وذلك بسبب العجز المزمن في الموازنة العامة. إذ إنه وفضلاً على أن الدولة باتت مترهلة وغارقة في الديون، فإن السياسات العامة للحكومات بقيت محلية وقومية، بينما أصبح السوق ومعه كل الاقتصاد خاضعاً للعولمة، الأمر الذي يفسر عجز السياسات المحلية عن التأثير في مسار السوق الذي يتجاوز الحدود الوطنية للدول، مثلما هو الشأن مع الشركات العالمية الكبرى، لاسيما الأمريكية والصينية، التي تسيطر على القسم الأكبر من السوق العالمي.
لقد بدأت الكلمات ومعها كل السياسات في الغرب تفقد وهجها وقدرتها على التأثير في مسار الأحداث، وأخفقت في إقناع شرائح واسعة من المجتمع، وتراجعت تبعاً لذلك قدرة الخطاب التقني المبني على مفاهيم المردودية والنجاعة والإنتاجية والنمو.. إلخ، في إثارة اهتمام الناس.
ومن الواضح أن الدولة الغربية فشلت حتى الآن في التوفيق بين المجالين العام والخاص، وبات هناك شبه انفصال بينهما، كما تراجع مجال الالتقاء بينهما إلى حد بعيد، لأن السياسات العامة التي تتبناها الدول لا تدفع المواطنين إلى الانخراط فيها بحماس، بل إنهم أصبحوا يشعرون أن حياة الدولة وربما مستقبلها لا يعنيهم كثيراً. وبالتالي وفي اللحظة التي يتزايد فيها انهماك الأفراد في شأنهم الخاص ويتّسع عزوفهم عن الانخراط في الشأن العام، فإن الدول الغربية تشهد انتشاراً غير مسبوق للتيارات اليمينية والشعبوية التي تدعو شعوبها إلى الانغلاق وإلى رفض الآخر وتدفعهم في أحايين كثيرة إلى تبني ثقافة الكراهية. وهناك إحساس عارم في الغرب أن المواطن أصبح في العقود الأخيرة أكثر سلبية ولا يعنيه كثيراً المجال العمومي.
ولعل أبلغ مثال لأزمة نموذج الدولة في الغرب يكمن في عدم قدرتها على إنتاج نخب وزعامات يمكنها المساهمة في استقطاب مواطنيها بعيداً عن الشعبوية وخطاب الكراهية والانغلاق الثقافي والعرقي، فالشعوب الغربية في مجملها لم تعد تهتم بنخبها إلا في السياقات التي تعمل فيها هذه النخب على إيقاظ مشاعر الغوغائية لديها، وبخاصة في العقود القليلة الماضية التي تراجعت فيها، بشكل رهيب، قيم التنوير الأوروبي وروح القوانين، ولا يمكن للغرب بالتالي أن يزايد على الصين وروسيا فيما يتعلق بالخطر الذي تمثله الدولة الشمولية على الممارسة الديمقراطية، لأن التجارب السياسية تؤكد أن الشعبوية في الغرب أنتجت حتى الآن أكثر أشكال الاستبداد والشمولية دموية في التاريخ المعاصر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"