أسئلة صعبة على مائدة عشاء

03:58 صباحا
قراءة 6 دقائق
د. يوسف الحسن

عائد منذ أيام، من عَمّان والقاهرة، بعد مشاركة في مؤتمرين فكريين، أولهما في إطار «منتدى الفكر العربي» برئاسة الأمير الحسن بن طلال، وثانيهما في إطار «مؤسسة الفكر العربي» برئاسة الأمير خالد الفيصل.

الأوضاع العربية المتدهورة، طغت على مكونات الأجندة الرئيسية لمؤتمري المنتدى والمؤسسة، ووضعت العقل الجمعي لعشرات من المفكرين والساسة العرب المشاركين، أمام سؤال مركزي لا مفر من الإجابة عنه، وهو: ما الحل للخروج من هذه الأزمة الكارثية، والمتاهة الغامضة؟ هل تكفي مواجهة «الفكر الشيطاني» سبيلاً للحل؟ وهل هو بالذهاب بشجاعة إلى الحرب الأهلية المشتعلة في أكثر من مكان؟ هل الأوضاع العربية المعقدة في الراهن، تسمح بانتصارات مدوية، لهذا الفريق أو ذاك؟ وهل يمكن تجرع مرارة التسويات، بدلاً من استمرار الاقتتال العبثي، والتفتيت المأساوي، وأكلاف التدخلات الأجنبية؟
أسئلة صعبة ومعقدة، يطرحها مفكرون وساسة ونخب مثقفة، بعضهم ما زال يتكئ على قاموس شعبوي الخطاب، وآخرون يعيشون هواجس وذاكرة مثقلة بالإيديولوجيا والاستقطاب، وبعضهم متأثر بحروب «الجيل الرابع» والهويات الفرعية، أو مصاب بإحباط متراكم بعد أن تكسرت أحلامهم وتحولت إلى كوابيس.
في عمّان، وعلى هامش المؤتمر، التقيت بشخصيات وقادة يمنيين شماليين وجنوبيين، من بينهم حيدر العطاس والصديق الدكتور عبدالملك المخلافي وزير الخارجية الجديد، ابن تعز، ابن الفكر القومي الإنساني المنفتح والعقلاني، والذي أكد أن شعب تعز ذو انتماء عروبي، ناصري وليس «إخوانياً إصلاحياً»، وسمعت منهم، ما يدعو إلى ضرورة مراجعة السياسات السابقة لمنظومة مجلس التعاون تجاه اليمن، وإعادة قراءة الخرائط السياسية والديموغرافية والجغرافية

بعيون وفكر وعقل مختلف، وسمعت أحد قادة المقاومة في عدن يقول: «إن سوء نية علي عبدالله صالح كان واضحاً للعيان، منذ اليوم الأول لتوقيع المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية، والتي منحته، ولمن عمل معه، الحصانة!».
وفي القاهرة، حيث التقى نحو 500 مفكر وسياسي وناشط مجتمعي، في مؤتمر يبحث في «التكامل العربي»، وفي أسئلة حول كيفية تحقيق هذا التكامل، وأسئلة أخرى غير هامشية، حول أوضاعنا التنموية والسياسية والثقافية والأمنية، والخطاب الديني وهوياتنا الفردية والجماعية.
في أروقة الجامعة العربية، وقاعتها الكبرى الشهيرة، وبحضور ساسة كبار، يخفون من الأسرار، أكثر مما يرد على ألسنتهم من أفكار وخطب عصماء.. تذكر المشاركون أن عمر جامعة الدول العربية تجاوز السبعين عاماً.. استحضروا ذكرى أسماء من تولى أمانتها العامة، ممن رحل إلى دار البقاء، وممن بقي يرنو بحزن إلى هذه المؤسسة الرسمية للنظام الإقليمي العربي، وكيف بهت دورها وتلاشى.. وقُلتُ في واحدة من «ورش عمل» المؤتمر: «في غياب الإرادة السياسية للدول العربية الأعضاء.. احتضرت الجامعة، ووهن العمل العربي المشترك، واخُترق الأمن القومي العربي».

في مثل هذه المؤتمرات، تنشأ مودات فردية وصداقات، وتجري حوارات صريحة وجريئة خارج أجندات الاجتماع، وتتجدد صداقات وتُستحضر ذكريات وأفكار من خارج «الصندوق»، وما أكثر الأسئلة حول الوضع المصري الراهن، والدور المحوري المتقدم للإمارات تجاه قضايا ساخنة، وتفاعل إيجابي مع متغيرات تجري هنا وهناك، وأدوار إيرانية وتركية، بعضها ملتبس في أذهان بعض المفكرين والساسة العرب فضلاً عن تداعيات ما سمي بالربيع العربي، وكيف اختلط فيه حابل الشباب الثائر والمطالب بالإصلاح مع نابل القاتل الجوال وقاطع الطريق، وصيادي الفرص، وخاطفي الأحلام.

سمعت من أصدقاء كثر، ما مفاده «أن ظهور«داعش» في العراق وسوريا واليمن وليبيا وشمال إفريقيا، كان هدية جديدة لإيران، وظفّتها من خلال المناورة والمجازفات المحسوبة وفتح مسالك إلى الأجندات الدولية».

سألني أصدقاء، عن إيران، وعما إذا كانت راغبة في الانتقال إلى حالة «الدولة الطبيعية»، بعد أن أصبحت أمريكا (الشيطان الأكبر سابقاً)، هي المنافس والشريك المحتمل، وبعد أن حصلت إيران على ما تريد: الحلم النووي والدور الإقليمي.

قلت: «إن أمام إيران أسئلة محورية، وقد آن الأوان للإجابة عنها من خلال الممارسة والعمل وإجراءات بناء الثقة واقتناعها بضرورة تقاعدها مع أحلامها الإمبراطورية، وأوهام بعض قادتها، لتصبح «دولة طبيعية»، تحترم جيرانها العرب، وهواجسهم وخياراتهم. لقد دفعت أجزاء كثيرة من الوطن العربي، أكلافاً هائلة من مواردها ونسيج مجتمعاتها ودماء أبنائها، نتيجة هذا الهجوم الإيراني المتواصل على مدى ثلاثة عقود، لتوسيع حضورها السياسي والعسكري والديني والإيديولوجي في المشرق العربي بخاصة.

وسمعت من مفكر مصري، وهو يحاورني، تساؤلاً مثيراً، حول إمكانية تحول اهتمامات بعض أصحاب المجازفات الكبرى من العرب، باتجاه الهضبة الإيرانية والملاعب الرخوة من العافية الإيرانية في الداخل والخارج، خاصة إذا ما تم استدعاء كل ما لدى هؤلاء من احتياطات، وقوى مستنفرة، وثارات، وسياسات ضاغطة.

وقلت لهذا الصديق: «إن الإفراط الزائد في الثقة بالنفس لدى قادة إيران، قد يصل بهم إلى درجة العمى ما يجعل كل شيء في مهب الفوضى ومحاصيلها»، وأضفت: «إن هذه الاختراقات الإيرانية، وأخرى تركية، أقل قيمة وتأثيراً، هي باهظة التكاليف على الأجيال القادمة، من عرب وترك وإيرانيين، ولنتذكر حكمة التاريخ، ولا نكرر أخطاءه، ولنبحث جميعاً عن مفاتيح أخرى لأقفال هذه الأزمات المتفاقمة».
على مائدة عشاء، في ليلة افتتاح مؤتمر القاهرة، إثر انتهاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من إلقاء خطابه، حضر سؤال صعب، ردده أصدقاء من المغرب وموريتانيا ومصر ولبنان والعراق، أحدهم كان يوماً وزيراً للخارجية في بلاده، وجلهم من حملة القلم والفلسفة والفكر، ومحور السؤال الصعب يدور حول «أين أخطأنا كعرب في تعاملنا مع أزمات سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها؟ هل كانت لدينا استراتيجية كبرى تجاه هذه الأزمات؟ وهل كانت إيران تستطيع التوصل إلى اتفاق نووي مع الغرب، لو لم يكن لها النفوذ واليد العليا في العراق وسوريا؟ وهل سأل عرب اليوم، وبخاصة الفاعلون منهم، أنفسهم عن دورهم في تسهيل عبور إيران إلى المشرق العربي، بدءاً من العراق؟ وهل هناك معنى الآن، للبحث عن حل في سوريا والعراق، شرطه الأول هو «سوريا والعراق من دون إيران».. أي «البصرة بعد خرابها»؟
لم يسقط النظام العراقي فحسب، عند الاحتلال الأمريكي في عام 2003، بل سقطت الدولة العراقية، وتفكك المجتمع إلى ذرات وهويات متقاتلة، وتم السطو على نفط العراق وموارده وجيء بالإرهاب والقتلة الجوالين من كل حدب وصوب، وتغذى «الإرهاب كالذباب، من مبيداته» واستيقظت كل نوازع الشر والحروب الدينية والكراهية الجماعية.. ووصلنا إلى مشروع انتحار.
وفي سوريا ارتكبت خطيئة كبرى، ومجازفة غير عقلانية، بتسليح المعارضة السورية السلمية، ولم يكن لدى أصحاب المجازفات الكبرى، تصور فعلي للمسرح السوري وموقعه وعلاقاته الإقليمية ومتغيرات المشهد الدولي، وقد يكون صاحب المجازفة الكبرى شجاعاً في ذلك الوقت، لكن من المؤكد الآن، أنه لم يكن يمتلك خيالاً أو تصوراً واقعياً لإدراك مسارات الطلقة الأولى، فضلاً عن خواتيمها، ومواعيد الطلقة الأخيرة. اندفع كثيرون عرب وغير عرب في هذه المجازفة، من دون حسابات للأكلاف ولمرارات البشر ودماء الأبرياء وتدمير كيان الدولة ونسيج مجتمعها.
ورغم أن درس العراق، ليس من سوريا ببعيد، إلا أن الدرس تكرر مرة أخرى، وحضرت إيران وتركيا و«داعش» وإخوته، كما حضرت روسيا. ظن البعض، أن الصراع على سوريا هو في الأساس صراع مع إيران، ورحبت إيران بهذا التفكير العربي القاصر، طالما أن ساحات الصراع هي في ملاعب عربية، وليس على الأرض الإيرانية، هدايا مجانية كثيرة حصلت عليها إيران، وكلها سحبت من أرصدة استراتيجية وسيادية عربية، وبأثمان باهظة، دفعها الأمن القومي العربي، والدولة الوطنية والهوية العربية، ومن بينها، حضور «داعش» وإخوته وحلفائه، الذي نجح في تغيير المشهد الإقليمي، من خلال ضرباته الوحشية في كل مكان، ومخاطبته العالم برؤوس مقطوعة لضحاياه، وبأحزمة ناسفة، ومشعلاً النار في خطوط التماس بين البشر واتباع الديانات. ولا تبدو الآن محاربة الإرهاب سهلة، بل قاسية وطويلة - وسيكتشف الذين انتظروا أو تريثوا أو صمتوا أو رقصوا أو مولوا وسلحوا.. أنهم ارتكبوا جريمة كبرى.
عرفت الجامعة العربية منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، تعلمت فيها الدروس الأولى في العمل العربي المشترك، وأدركت طبيعتها وزواياها وآليات عملها، وكيف باستطاعتها حينما تتوفر الإرادة السياسية لأعضائها، أن تكون فاعلة ومؤثرة، وبخاصة إذا ما توفر لها أمين عام يجسد «الضمير القومي».
اليوم.. تغيرت خريطة توازنات القوة في النظام الإقليمي العربي، وزادت مساحة الرتق والتذرر في الجسم العربي، وتراجعت المشتركات العربية، وغاب الحوار الخلاق، وحضرت الفوضى القاتلة والقاتل المأجور، والمتعطش للهيمنة والتوسع.
نعم.. العالم ليس بريئاً، والجامعة العربية كمؤسسة قومية ليست كذلك، أما نحن العرب، فالمسؤولية الأولى تقع على عواتقنا للخروج من هذا المشروع الانتحاري فهل نستيقظ ونراجع الحسابات؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"