ألوان العنف

02:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسن العديني
للعنف ضروب شتى، من أبسط ما يؤذي المشاعر حتى أغزر شلالات الدم. أوّله أن يلقي شخص شيئاً مستقره الطبيعي سلة المهملات، وآخره مذبحة في أحد شوارع بغداد. لكن ما لست في وارد الخوض في مجالات دهاليزها تذهب بالعقل، وحتى في العنف الذي يصل إلى درجة القتل فلن أتعرض للعنف الاجتماعي الذي يعود في جذوره إلى هابيل وقابيل، وإنما قصدت العنف السياسي بصورته المنظمة على وجه التحديد.
ولكن ما الداعي إلى إثارة هذا الموضوع في وجود أحداث ساخنة وقضايا ملحة؟
الجواب أن اشد القضايا سخونة هو العنف مجسداً، وصارخاً. ثم إن شيئاً آخر دفعني للموضوع، وهو إنكار الرئيس اليمني السابق تحريض اتباعه على قتل خصومه في حزب الإصلاح. كتب هذا على صفحته في «الفيسبوك» متهماً منتقديه بتشويه كلامه، رغم أنه قالها بملء فمه «اقتلوهم، احرقوهم، اقنصوهم».
نحن هنا أمام شخصيتين إحداهما حقيقية أخرجت الرواسب وعبرت عن نزعة متأصلة للقتل والتدمير، والثانية مصطنعة تلبس قناع الطيبة وتحاول لملمة الفضيحة، فيعجز الكلام المكتوب عن طمس الصورة، وإزالة الصوت. الوقائع في ذاتها تشير إلى عقلية محمومة، ومولعة بالقتل. وقد كان له داخل اليمن أشخاص يقومون بمهمات خاصة، وفي دعوته أنصاره إلى قتل الخصوم فإنما كان يخاطب تلك الخلايا بالذات. وهو على أي حال، كان يقيم علاقات مع كل جماعات العنف في بلاده، من القاعدة إلى الإخوان، والحوثيين، وفي سنوات حروبه مع الآخرين تكررت دعواته لشقيق زعيمهم يحيى بدرالدين الحوثي إلى مجلسه في دار الرئاسة.
إن عنف الدولة هنا يمتزج بعنف التنظيمات المسلحة، ويستعين به. وهي ليست حالة يمنية فريدة، فقد أنشأ الملك فاروق الحرس الحديدي لتصفية خصومه، وأحرق النازيون مبنى الريشستاغ (البرلمان) كي تلقى التهمة على الشيوعيين للتنكيل بهم.
تعيد باحثة عربية، جذور العنف السياسي المنظم إلى القرن التاسع عشر، وبالفعل شهدت فرنسا وحدها في هذا القرن ثلاث ثورات في 1930، و1948، امتدت إلى أوروبا، وأخذت وقتها الاسم الذي استعرناه ربيع أوروبا، ثم كومونة باريس في 1870، عندما نصبت المتاريس، ونجح الاشتراكيون والفوضويون في إقامة نظام شيوعي سقط بعد أسابيع، وفيها برز اكثر من غيره لويس بلانكي، صاحب العبارة الجميلة الحكيمة «لا تسألني إن كان في الضفة الأخرى برسيم، أو شعير، ولكن دعنا نعبر النهر ونرَ». وفي روسيا نشطت المنظمات الإرهابية أواخر القرن على نطاق واسع، وشديد الدوي. مع هذا، من الصعب أن يؤرخ لبداية العنف المنظم من ذلك الزمان، فقد سارت مبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والإخاء والمساواة على تلال من الجثث في عصر الإرهاب القصير الذي افتتح بإعدام الملك والملكة، واختتم برأس روبسبير، مصدقاً لنبوءة رفيقه دانتون، يوم ساقه إلى حتفه «بعدي أنت يا روبسبير». سيقال إن هذا عنف الدولة، وهو قديم من فجر التاريخ. والأقرب إلى الحقيقة أن الثورة الفرنسية جمعت بين بطش الدولة، وعنف المنظمة الإرهابية، إذ كان حزب الجبل في مواجهة الملك والنبلاء الإقطاعيين، ورجال الدين. وقبل الثورة الفرنسية طفحت الدماء في مجرى التاريخ وإن كانت في أغلبها حروب تستحث الفروسية والقليل منها يتردى في منحنى الغدر.
على أن العالم ليس أوروبا وحدها، ففي التاريخ الإسلامي يبرز الخوارج كأول تنظيم وجّه السهام والسيوف لقتل الخصوم، وقطع السبيل. ومن قلعة آلموت في شمال غرب إيران، أنشأ حسن الصباح تنظيماً هرمياً سبق الأحزاب الشيوعية بأكثر من 800 سنة، وهناك أنشأ جنته الوهمية بوادي الديلم، واقنع مجنديه بالحشيش، والخمر، والنساء، أن يستعجلوا الجنة بالاستشهاد، وأرسلهم إلى قتل خصومه. لكن هذه الفرقة مالت إلى السلام والحياة الوادعة، وربما استبد بها الخوف بعد سقوط قلعة آلموت على أيدي المغول.
مع ذلك، فليس الإرهاب احتكاراً إسلامياً، فقد ظهرت في القرن العشرين عشرات الحركات المسلحة من الجيش الأحمر الياباني، إلى الألوية الحمراء في إيطاليا، إلى الهاغاناه، لكن كانت هناك حركات التحرر الوطني ذات الأهداف النبيلة في انتزاع الاستقلال والحرية.
اختم بالدهشة من تعطش الرئيس اليمني السابق إلى دماء حلفائه القدماء في الحرب على الجبهة الوطنية الديمقراطية اليسارية التوجه.
وفي اليمن صور عدة للعنف.. النفايات في الشوارع.. والناس بلا زاد، ولا ماء، ولا أمل.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"