أمريكا الباحثة عن الوهم الاستراتيجي

02:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

لم يخطئ من قال: إن الاحتفاظ باللقمة أصعب من الوصول إليها. وأكثر من يستوعب هذه الحقيقية هم الأمريكيون الذين يؤرقهم هاجس صعود قوى منافسة تزيحهم عن موقعهم الفريد كقوة عظمى وحيدة في العالم. يجهد المفكرون وصنّاع السياسة الأمريكيون أنفسهم في وضع خطط وسياسات تضمن المحافظة على مكانة بلادهم، وتفوقها الكاسح سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعلمياً.
ومنذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي لم يتوقفوا عن التفكير في الاستراتيجية الجديدة التي ينبغي صياغتها؛ لإدارة وقيادة العالم. اعتبروا أن استراتيجية الردع والاحتواء التي واجهوا بها موسكو أدت مهمتها، وحققت أهدافها، وأنه حان الوقت لبلورة أخرى. غير أنهم عجزوا حتى الآن عن الخروج بنتيجة مرضية. وتأرجحت اجتهاداتهم بين سياسات فاشلة أو صيغ مبتسرة لا ترقى لمستوى الاستراتيجية الكاملة مثل المد الديمقراطي في عهد كلينتون، أو الحرب ضد الإرهاب التي تبناها بوش الابن، أو «أمريكا أولاً» وفقاً لرأي ترامب.
وعلى الرغم من الانقسام بين الحزبين الكبيرين، فهناك إجماع على ضرورة مواصلة الاجتهاد؛ لصياغة استراتيجية كبرى جديدة، تضمن إدارة فاعلة للسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين. إلا أن مجلة «فورين بوليسي» الرصينة المعنية بالقضايا الخارجية، فاجأت الجميع بطرح رؤية مغايرة تماماً لهذا التيار السائد.
الطرح الجديد وهو جدير بالتأمل، قدمه مايكل فوشس الباحث في مركز «أمريكان بروجرس»، والذي عمل من قبل مساعداً لوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون. كما شغل منصب وكيل مساعد وزير الخارجية من 2013 إلى 2016 وهو محلل سياسي مرموق في المجلة التي عرضت رويته بإسهاب.
فكرة فوشس بسيطة للغاية، وأساسها أن أمريكا لا تحتاج إلى استراتيجية كبرى جديدة، فلا لزوم لها. وما تحتاج إليه أبعد ما يكون عن إبقاء سياستها الخارجية حبيسة قوالب جامدة تشل فاعليتها. تحتاج أمريكا إلى تحديد أولوياتها وأهدافها ثم صياغة مجموعة استراتيجيات؛ للتعامل مع كل قضية على حدة. وعلى ضوء وجود قضايا وأزمات دولية غير مترابطة ولا علاقة لها ببعضها فلن يجدي تطبيق صيغ سياسية موحدة وجامدة.
يضرب الباحث أمثلة عدة لصعوبة تطبيق المبدأ الواحد في كل الحالات. فمثلاً إذا التزمت أمريكا بالتدخل عسكرياً؛ لحماية ما تصفه بالشرعية الدولية كما فعلت عند غزو العراق للكويت، فهل بإمكانها أن تكرر ذلك إذا تمادت الصين في أنشطتها العسكرية ببحر الصين الجنوبي وهددت أو اعتدت على جيرانها؟. نفس الأمر ظهر عندما تدخلت روسيا في أوكرانيا وضمت القرم، كان واضحاً أنه لا يمكن معاملة قوة نووية كما تعاملت مع العراق.
في المقابل عندما انتهجت أمريكا سياسة عكسية بعدم التدخل وفقاً لمبدأ أوباما فإنها لم تستطع أن تتجاهل أزمة بحجم الحرب السورية واضطرت للتدخل. ولم يدم انسحابها من العراق طويلاً فسرعان ما أجبرها التدهور الأمني على العودة، بينما منعها التدهور المماثل في أفغانستان من تنفيذ خطة الخروج.
الخلاصة التي يريد الباحث الوصول إليها هي أنه لا يجب أن تكون السياسة الخارجية سجينة استراتيجية متحجرة. وأن تنوع القضايا يفرض على واشنطن مجموعة استراتيجيات؛ للتعامل المنفصل مع كل ملف.
سبب آخر لتجنب الالتزام باستراتيجية واحدة هو أن مثل هذه الاستراتيجية لم تكن خيراً دائماً؛ بل جلبت ويلات هائلة؛ فبدعوى احتواء الشيوعية ارتكبت أمريكا أخطاء قاتلة مثل حرب فيتنام، ودعم الانقلابات في أمريكا اللاتينية، وخوض عشرات الحروب بالوكالة. وأسفر هذا كله عن ملايين القتلى والمصابين. كارثة أخرى أفضت إليها استراتيجية الحرب العالمية على الإرهاب وهي غزو العراق تحت ذرائع وهمية ودون أن يكون له علاقة بالإرهاب.
أخيراً يغفل المنادون بصياغة استراتيجية كبرى عن حقيقتين مهمتين؛ أولهما أن العالم يتغير ربما بأسرع مما يمكن أن تحتويه وتتعامل معه نصوص جامدة وفضفاضة. وثانيهما أن سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ نهاية الحرب الباردة لا يعكس فهماً كافياً للفارق بين مسؤوليات قيادة العالم وأطماع السيطرة عليه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"