أوروبا الخائفة من سُنة التاريخ

03:17 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

لم تكن التحديات الأمنية التي تواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) هي الهاجس الوحيد المسيطر على تفكير قادة الحلف وهم يحتفلون أوائل الشهر الجاري بذكرى ميلاده السبعين. القضية الأشمل التي شغلت الشركاء الأوروبيين كانت مستقبل العلاقات المأزومة مع الحليف الأمريكي.
أسهب الخبراء في الحديث عن العمليات العسكرية للحلف، والأخطار التي يتصدى لها من أفغانستان إلى العراق، ومن شرق أوروبا حيث التمدد الروسي، إلى جنوب القارة، حيث موجات الهجرة المتدفقة إلى شواطئها من شمال إفريقيا والشرق الأوسط. تحدثوا عن خطر الإرهاب، والأمن الإلكتروني والسلام الهش في البلقان، والمد القومي المخاصم للديمقراطية وقيم التسامح والتعايش السلمي في بعض بلدان الحلف؛ هذه كلها هموم وتهديدات حقيقية يواجهها الناتو، ولكنها تظل تقليدية معتادة يتصدى لها بقدر معقول من النجاح، حتى لو لم يكن من المتاح وأد خطرها تماماً.
أما الخطر غير التقليدي الذي يواجهه الحلف، فهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هذا رأي يعبر عنه بوضوح خبراء لا تنقصهم الصراحة ولا يقيدون أنفسهم بقواعد اللغة الدبلوماسية. أحد هؤلاء، وهو تشارلز كوبشان، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج تاون الأمريكية، كتب في مجلة «فورين افيرز»، أن ترامب هو بالفعل أحد أهم مصادر قلق القادة الأوروبيين بشأن مستقبل الحلف؛ بل مستقبل العلاقات الاستراتيجية الأوسع نطاقاً بين أوروبا والولايات المتحدة.
كثيرون قبله رددوا نفس الرأي استناداً إلى تصريحات ومواقف ترامب الذي اعتاد توجيه انتقادات لاذعة وقاسية للدول الأوروبية الحليفة، وبسبب مطالبته المتكررة لها بتحمل قسط أكبر من فاتورة الدفاع عنها. الأكثر من ذلك، أنه لوّح بالانسحاب من الحلف وهو أحد أهم ركائز النظام العالمي الذي أقامته ودافعت عنه الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.
منذ أن وصل ترامب إلى السلطة بشعاره الأثير: «أمريكا أولاً» بدأ تراجعاً منظماً للداخل، وحرص على تقليص التورط الأمريكي في الشأن العالمي، والتحلل من اتفاقيات وأعباء مالية وسياسية وعسكرية يرى أنها لا تحقق المصالح الأمريكية. وقد انعكس هذا التوجه بطبيعة الحال، على العلاقات مع أوروبا التي اتسمت بالتوتر، خاصة بعد تهربه من التعهد بتنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في معاهدة الحلف بشأن الدفاع المشترك، وكذلك أثر أزمة الخلافات التجارية الشهيرة مع ألمانيا في العام الماضي.
يخشى الأوروبيون أن يكون مجيء ترامب أحد إرهاصات عهد جديد في السياسة الخارجية الأمريكية بالعودة إلى الانكفاء على الداخل، والابتعاد عن الهموم العالمية. لو حدث هذا فلن يكون في الواقع عهداً جديداً؛ بل ردة إلى عصر مضى، وتلك دورة التاريخ الحتمية من وجهة نظر كثيرين؛ ذلك أن تأسيس الناتو عام 1949 كان إيذاناً بميلاد عهد جديد ودّعت فيه واشنطن عزلتها الاختيارية في زمن السلم. وربما تكون على موعد الآن مع إشراقة عصر آخر تعود فيه إلى عزلتها. سياسات ترامب تقول ذلك، وهو ما يثير قلق الأوروبيين ولهم الحق.
التصدع في جسور الصداقة والتعاون الممتدة عبر ضفتي الأطلسي أصبح حقيقية لا يمكن تجاهلها، والهوة التي تفصل بين الشريكين التاريخيين تزداد اتساعاً منذ انتخاب ترامب، وهي مرشحة لمزيد من الاتساع حتى بعد رحيله، على ضوء التوجه المتنامي في الولايات المتحدة نحو التراجع عن التورط في مشاكل دولية تستنزف طاقتها البشرية والاقتصادية والعسكرية. قرار الانسحاب من العراق وأفغانستان اتخذه الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، وقرار الانسحاب من سوريا اتخذه الرئيس الجمهوري الحالي.
ستواصل أمريكا تراجعها المنظم إلى الداخل في وجود ترامب أو غيره؛ إنها سُنة التاريخ الذي يعيد نفسه، فليس بعد المد سوى الجزر. وبعد أن بلغ التدخل الأمريكي في شؤون العالم ذروته طوال السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، حانت لحظة الانحسار، وهي اللحظة التي تتوقعها أوروبا وتخشاها في الوقت نفسه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"