أين أضحت الشراكة الأورو-متوسطية؟

02:58 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

تعيش منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط اضطرابات شديدة في كل ضفافها الشمالية والجنوبية والشرقية. فالاقتصادات تتخبط في حبائل الأزمات، والصراعات المسلحة تعصف بالضفتين الجنوبية والشرقية للمتوسط فتقذف بمئات الآلاف من النازحين الهاربين من الحروب على طريق الهجرة غير الشرعية المحفوف بالمخاطر.
ولا يبدو أن الأزمات الاقتصادية تسير في طريق الحل على ضفاف المتوسط. فالاتحاد الأوروبي ما يزال يعاني من الهزات الارتدادية لزلزال الأزمة المالية العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة في العام 2008، وعدد من أعضائه، كإسبانيا وإيطاليا وغيرهما، وقع في أزمة استدعت تدخلاً فورياً من المفوضية الأوروبية للإنقاذ، أما اليونان فشارفت على الإفلاس وكادت تُكره على الخروج من منطقة اليورو لولا التدخل السريع والمباشر للاتحاد الأوروبي الذي فرض عليها بالمناسبة شروطاً تقشفية صعبة في مقابل إنقاذها. وقد تسببت أزمة العام 2008 أيضاً بانهيار الشراكة الأورو-متوسطية التي تأسست في إعلان برشلونة للعام 1966، والتي كان عليها أن تؤمن الوسائل الاقتصادية والمالية والسياسية التي تضع حجر الأساس لبناء متوسطي مزدهر وآمن فتعطي بذلك لأوروبا مركز القوة العظمى التي يمكن الاعتماد عليها.
دول المغرب العربي وقعت في العجز الخزيني والمديونية لأنها أطلقت مشاريع بنى تحتية كبرى (مرافئ ضخمة، أوتوسترادات كبرى، خطوط سكة حديد..الخ) استعداداً لهذا الفضاء المتوسطي الواعد. في هذا الإطار عمدت إلى تطوير علاقاتها مع بلدان الشمال الأوروبي المتوسطية، الأمر الذي أدى إلى ربط تطورها التقني، بدول مثل فرنسا، ولكن من دون مفاعيل تذكر لهذا النمو التقني على النمو البشري والاجتماعي، فكانت النتيجة إضافة أسباب جديدة إلى تلك التي قادت إلى انتفاضات ما سمي ب«الربيع العربي».
لقد واجهت فكرة تسييس التعاون الاقتصادي في المتوسط صعوبات جمة لجهة وضع هذا التعاون موضع التنفيذ، وهذا ما يعيد إلى الأذهان الإشكالية التي وضعت العصي في دواليب الحوار العربي- الأوروبي في سبعينيات القرن المنصرم. كانت أوروبا، وما تزال، تشدد على التعاون الاقتصادي، وكان العرب يريدون منها مواقف سياسية تؤيد القضايا العربية لا سيما الفلسطينية منها. وقد انتقلت العلاقة العربية-الأوروبية من الحوار إلى إعلان برشلونة مروراً بسياسة الجوار الأوروبية واتفاقات الشراكة وصولاً إلى «الاتحاد من أجل المتوسط»، ولكن من دون التوصل إلى النتائج المأمولة. وبعد تحققها من الفشل لجأت أوروبا، في العام 2015،إلى تقديم «سياسة جوار» بهدف تحسين علاقاتها مع بلدان إفريقيا الشمالية، ولكن من دون نجاح يذكر إلى اليوم.
لقد نجح الاتحاد الأوروبي في إنتاج تعاون مؤسساتي مع دول الجنوب المتوسطي، هذا كل شيء. وكشف محتوى «سياسة الجوار» عن ارتباط متبادل، ولكن في أي مستوى؟ عمل الاتحاد على إعطاء مفاتيح دفع الاقتصادات من خلال الحكم الرشيد والنمو، ولكن كيف؟ لقد كانت سياساته مجرد إعلانات عن حسن نوايا ولكن من دون أي أفعال حقيقية محددة خلفها.
وأدت الثورات العربية منذ العام 2011 إلى بزوغ قوميات وأصوليات جديدة، تحديداً مع وصول «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر، ولو لأشهر محدودة. وغرقت ليبيا وسوريا المتوسطيتين في أزمات دينية وسياسية عميقة لا سيما مع صعود الإرهاب «الداعشي» فيهما.
لم تبق أوروبا بمنأى عن الأزمة التي ضربت شركاءها العرب. ففي العام 2015 كان عليها أن تواجه مشكلة 1.2 مليون طالب لجوء، أضيف إليهم أكثر من 600 ألف في العام 2016. لكن أزمة النازحين هذه أصابت بشكل مختلف دول الاتحاد الأوروبي التي كشفت عن قصور في قدراتها على استيعاب النازحين.
لقد انكشفت الحدود الأوروبية أمام تدفق اللاجئين وتبين أن أوروبا لا يمكن أن تكون قلعة محصنة مغلقة. فالأزمة السياسية في ليبيا أفقدتها دورها كحارس حدود بين إفريقيا وأوروبا. و كان على أوروبا أن تبحث عن حارس حدود جديد، فوجدته في تركيا التي وقعت معها اتفاقاً بهذا الصدد تمنح بموجبه أنقرة ستة مليارات دولار وتعفي مواطنيها من تأشيرات الدخول إلى دول الاتحاد الأوروبي. وجدت تركيا نفسها في الخط الأمامي من الأزمة مع أربعة ملايين نازح وصلوا إليها. ولكن بما أنها لا تقدم ظروفاً مريحة للنزوح والإقامة في أراضيها فإن النازحين سرعان ما يسعون لمغادرتها صوب أوروبا عبر طريق البلقان التي تنتهي بحدود مغلقة كلياً أمامهم فيضطرون عندها إلى ركوب مخاطرة عبور البحر المتوسط نحو اليونان أو إيطاليا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"