أين تقع سعادة المواطنين؟

04:49 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ فترة قصيرة قامت محطة الإذاعة البريطانية الشهيرة بي بي سي بسؤال عينة من الشعب البريطاني عن مدى موافقتهم على الجملة التالية: إن مهمة الحكومات الأساسية هي تحقيق السعادة لأكبر عدد من المواطنين وليس زيادة ثروتهم المادية لقد كانت المفاجأة موافقة أكثر من ثمانين في المائة من أفراد العينة على هذه المقولة. وفي ظني أنه لو سئل الناس في كل المجتمعات السؤال نفسه لجاءت الإجابة مماثلة للشعب البريطاني.

في الماضي كانت السعادة موضوعاً تهتم به الديانات ويكتب عنه المفكرون والفلاسفة، لكنه أصبح في عصرنا موضوعاً تهتم به أقسام دراسات السعادة في بعض الجامعات ذات السمعة العالية وتدرسه بعض مراكز البحوث وتناقشه مجلات متخصصة في دراسات السعادة. من هنا انبثقت العديد من استطلاعات الرأي والاحصائيات المقارنة بشأن هذا الموضوع، والتي أظهرت غالبيتها الساحقة شبه إجماع على أن العلاقة بين الشعور بالسعادة ومقدار الثروة التي يملكها الإنسان هي علاقة ضعيفة، وأن هناك عوامل مجتمعية وشخصية أخرى أهم بكثير من عامل الثروة. من بين تلك العوامل العيش في مجتمع يقدس الكرامة الإنسانية والمساواة بين البشر والحريات الأساسية في القول والفعل والأمان الوظيفي للكل. وبمعنى آخر العيش الحر الكريم في مجتمع ديمقراطي عادل يهتم بالإنسان لذاته أكثر من اهتمامه به كأداة إنتاج مادي وكوسيلة لتعاظم الثروة في أيادي قلة مجتمعية أنانية.

في السنة الماضية وضع الكاتب البريطاني أوليفر جيمس كتاباً سماه أنفلونزا بحبوحة العيش (Affluenza)، وهو محاولة لدراسة الارتباط بين بحبوحة الحياة العولمية الاستهلاكية في مجموعة من البلدان وبين نسبة انتشار التوترات العصبية والكآبة في تلك المجتمعات. ولقد أورد الكاتب الكثير من الإحصائيات التي أظهرت أن نسبة التوترات العصبية ترتفع باطراد كلما اقتربت المجتمعات من تبني القيم الاقتصادية الاستهلاكية الأمريكية التي تثمن الإنسان بمقدار نجاحه الاقتصادي والثروة المادية والمعنوية التي يملكها والاستهلاك النهم الذي يمارسه، وبالتالي فإنها تدفع الإنسان الأمريكي إلى العيش في جحيم العمل المنهك الدائم ومقارنة نفسه بالآخرين وتولّد الرغبات التي لا تنتهي في عقله ووجدانه. لقد درس المؤلف ذلك الجانب في مجتمعات أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وروسيا وسنغافورة والدنمارك والصين ليتبين له أن المجتمع الدنماركي هو من أقلهم توتراً وكآبة بسبب مقاومته لما يسميه فيروس قيم المجتمع الاستهلاكي الذي تمثل أمريكا تجلياته. إن السبب يكمن في السياسات الاجتماعية والثقافية التي ترعاها الدولة الدنماركية والتي تولد نمط عيش في العائلة ومكان العمل يختلف عن النمط الأمريكي. فإذا اعتبرنا أن ارتفاع نسبة التوترات العصبية والكآبة يقود إلى ضعف الشعور بالسعادة في المجتمع أدركنا سبب تفضيل المؤلف لنمط العيش الدنماركي.

مناسبة الحديث عن دور الدولة في تحقيق السعادة لمواطنيها هو اعتقادنا بأن الدولة العربية ستعيد التفكير في أدوارها بعد الهزة المالية العاصفة التي اجتاحت العالم منذ شهرين. فالدولة العربية، وخصوصاً البترولية منها، ركزت في العقود الأخيرة على جذب الاستثمارات الخارجية والداخلية وعلى إبراز جداول الإحصائيات التي لا تتحدث إلا عن الزيادة السنوية في الدخل القومي، وعلى دفع مجتمعاتها لتبني القيم العولمية الاستهلاكية في نمط عيشها، وعلى المباهاة باقترابها من التفكير الاقتصادي الأمريكي وإرضاء إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بصورة عشوائية لا إنسانية، وبالتالي اعتقدت أن مهمتها الأساسية هي بناء الثروة المادية. وفي خضم كل ذلك نسيت الدولة العربية أن مسؤوليتها الأساسية هي في تبني الاستراتيجيات والسياسات والقيم التي توصل مواطنيها للشعور بالسعادة والفرح. وهي سياسات وقيم لا تقتصر على حقل الاقتصاد، على أهميته، بل تتعداه إلى حقول السياسة والاجتماع والثقافة والحياة الروحية والفنون الرفيعة وغيرها. إن اللحظة الحالية التي تشهد افتضاح المدرسة الاقتصادية الرأسمالية المتوحشة التي أرسى قواعدها الفكر الليبرالي الفريدماني الجديد يجب أن تصبح لحظة تأمل في كل العوامل التي يجب أن تهتم بها الدولة العربية لتحقق أهم هدف سعت إليه البشرية عبر القرون. مطلوب من قادتنا أن يدرسوا تجارب الآخرين وحصيلة تلك التجارب بدلاً من تقليد مسار الجحيم الذي ساروا فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"