إنتاجية الزراعة والتغير المناخي

02:34 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

هنالك واقع هو أن نسبة الزراعة من الناتج المحلي الوطني، تنخفض كلما نما الاقتصاد، بحيث تكبر نسبياً القطاعات الأخرى، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن قيمة القطاع الزراعي تنحدر، بل نسبته من حجم الاقتصاد فقط. هنالك رابط قوي أيضاً، بين الزراعة والتغيير المناخي الحاصل عالمياً. يرتبط التغيير المناخي بالتلوّث المسبّب للأمراض على أنواعها. لا ترتبط العلاقة بين المناخ والزراعة بالكميات المنتجة فقط، وإنما بنوعيتها، وبالتالي بتأثيرها المباشر في صحة الإنسان وعمره المرتقب. ترتبط الزراعة بالمناخ كثيراً، ما يفسّر كيف تكون مناطق معيّنة أو دول محددة متخصصة بإنتاج سلع معروفة لسنوات طويلة. هنالك أيضاً نوعية التربة ومدى استعمال التكنولوجيا بالإضافة إلى الأدوية والسماد الكيماوي، ودرجة فهم المزارع للعلوم التي تتطور كثيراً من سنة إلى أخرى. هذا يفسر توسّع المساحة الزراعية في دول، بسبب التكنولوجيا التي غيرت مع الوقت إنتاجية التربة ونوعيتها. في كل حال هنالك تخصّص حتى في الزراعة، إذ تشتهر دول بإنتاج القمح وأخرى بالأرز وغيرها بالذرة. التربة والطقس وعوامل الإنتاج تؤثر بشكل كبير في هوية السلع ونوعيتها وكمياتها.

بالرغم من اعتراف الجميع بتأثير المناخ في الزراعة، يجهل المتخصصون في هذه العلوم كيفيته ودرجته وطريقة تأثر بعضه ببعض. لا شك أن الضرر المناخي كبير لكن الصعوبة تكمن في تقييم الأضرار ليس على الأرض فقط، وإنما على الإنسان أيضاً. من الدول التي أهملت كلياً معالجة الموضوع المناخي هي الصين، وتحاول اليوم التعويض عبر قيام حرب مدروسة على التلوّث وما ينتج عنه. تقدر خسارة التلوث السنوية ب 3,5% من الناتج الصيني التي تؤخر التقدم الاقتصادي ووصول الصين إلى المرتبة الأولى عالمياً. لا تزال الصين تتجاهل التوقيع على أهم الاتفاقيات الدولية بشأن البيئة والتحول المناخي.
في سنة 2012، 19% من سكان العالم البالغين 7,1 مليار شخص كانوا مرتبطين اقتصادياً مباشرة بالزراعة، لكن مع دخل يساوي 2,8% فقط من مجموع الدخل العالمي. هذا يعني أن المزارع لا يأخذ حقه الاقتصادي، وهذا معروف لكن في الوقت نفسه مقلق مستقبلاً، نظراً لأهمية الزراعة في الحياة. في عدد المرتبطين بطريقة مباشرة وغير مباشرة بالزراعة، ترتفع النسبة إلى 38% نصفهم يعيش في الريف، دون أن يعملوا مباشرة في القطاع الأول. تتوزع هذه النسب بشكل مختلف بين الدول، تبعاً لدرجة التنمية. في الهند مثلاً، تشكل الزراعة 18% من الدخل الوطني و 54% من العمالة.
قطاع الزراعة لا يرتبط بالسلع الغذائية للإنسان المنتجة من الأرض فقط، وإنما بالإنتاج الحيواني أيضاً، وغذاء الحيوان كما الأعلاف والطاقة المولدة من هذه المنتوجات كما الألياف والعديد من المواد الكيماوية التي تستعمل في الصناعة. هنالك واقع وهو أن 40% من الأرض تستعمل للزراعة بكل أشكالها وأقسامها. من مشكلات الزراعة عالمياً سوء توزع الدخل بين المواطنين الناتج عن سوء توزع الأرض والملكية، كما عن الفارق الكبير الناتج عن الإنتاجية المرتبطة بدورها بمدى استعمال التكنولوجيا الحديثة في الإنتاج. لا يكفي إدخال العلوم والآليات مرة واحدة، بل يجب تحديثها، لأن العلوم تتطور والأبحاث تتقدم، وبالتالي تتغير طرق الإنتاج، وسرعته وفعاليته في كل العالم.
هنالك واقع إحصائي عالمي، وهو أنه خلال النصف الثاني من القرن الماضي، تفوقت نسبة ارتفاع الإنتاج الزراعي على النموّ السكاني. مجدداً، فشلت نظريات «مالتوس» في توقع المستقبل الزراعي والفقر والمجاعة، بسبب انتشار التقنيات والعلوم في كل الدول. في سنة 1961، أنتج العالم زراعياً ما قيمته 746 مليار دولار على مساحة 4,5 مليار هكتار، مع يد عاملة قدرت ب 768 مليون شخص، لتأمين الغذاء لثلاث مليارات شخص. في سنة 2011 تحولت هذه الأرقام جذرياً، حيث ارتفع عدد السكان بنسبة سنوية قدرها 1,69%، وارتفع الإنتاج الزراعي بنسبة سنوية قدرها 2,25%، ولم تزداد المساحات المستعملة للزراعة إلا بنسبة سنوية قدرها 0,22%. لا ننكر هنا فضل المؤسسات الدولية وخاصة منظمة التغذية FAO، في نشر التقدم الزراعي، خاصة في الدول النامية والناشئة. طبعاً هذا لم يقض على الفقر في الريف، ولن يقضي، إنما حسّن الأوضاع حتى بدأنا نرى الفقر الأقصى والأعقد في المدن وليس في الريف.
هنالك خصائص عالمية واضحة رئيسية بشأن الزراعة نوضحها كالآتي:
أولاً: يتوزع الإنتاج الغذائي بطريقة غير متوازية عالمياً. ينتج الغذاء عموماً بالقرب من المستهلكين وهذا منطقي وطبيعي. لكن في الوقت نفسه، هنالك كميات كبيرة من الغذاء تنتج بعيداً وتتلف أحياناً، بسبب النقل والمسافة وعدم صيانة وسائل ومعدات وآليات النقل.
ثانياً: في التوزع الجغرافي للإنتاج، هنالك تغيرات كبيرة حصلت بين سنتي 1961 و2011. 43,8% من الإنتاج العالمي، كان يحصل في الدول الغنية في سنة 1961 مقابل 24,6% في سنة 2011، علماً أن قيمة الإنتاج ارتفعت من 327 مليار دولار إلى 591 مليار دولار. كما في كل شيء، ارتفعت حصة آسيا زراعياً من 24% من الإنتاج العالمي إلى 45%، خلال 50 سنة أي زاد إنتاجها بالدولار 6 مرات، وهي معجزة فعلية. أما منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فارتفعت حصتها من 3,7% إلى 5,2% أو 4,5 مرة، وهذا لا بأس به في الفترة الصعبة التي تعيش فيها المنطقة منذ سنوات، بل منذ عقود.
ثالثاً: خلال فترة 2009 2011، عشر دول شكلت 56% من المحصول الزراعي العالمي، بينها خمس حققت 42% من المجموع الدولي، هي الهند والولايات المتحدة وروسيا والصين والبرازيل. في ترتيب الإنتاج، الدول المئة في أسفل السلم تنتج 0,78% فقط، من المجموع العالمي. فالإنتاج الزراعي غير موزع بشكل عادل، وبالتالي تتحكم هذه الدول الخمسة بالواقع، وربما المستقبل الزراعيين من نواحي الكمية والنوعية وبالتالي الأسعار.
رابعاً: لا شك أن إنتاجية الزراعة ارتفعت في العقود الماضية، إلا أن وتيرة هذه الزيادة خفت مؤخراً، بسبب اهتمام العالم قبل أزمة 2008 بالتقنيات والأدوات المالية والابتعاد الكبير عن الاقتصاد الحقيقي ومشكلاته. في الدول الغنية، كان هنالك 65 مليون شخص يعملون في القطاع في سنة 1961، وانحدر إلى 17 مليون في سنة 2010، بالرغم من أن الإنتاج ارتفع كما ذكرنا أعلاه. يحصل الاتجاه نفسه في مساحة الأرض المزروعة التي خفت مع إنتاج أعلى. ما الذي ارتفع إذاً؟ الآليات المستعملة في الزراعة من 9 ملايين إلى 17 مليوناً، علماً أن إنتاجية الآلية الواحدة أصبحت أعلى وأسرع وأدق. ارتفعت أيضاً كميات السماد الكيماوي المستعملة مع ارتفاع نوعيتها. في الملخص تضاعفت إنتاجية العامل الزراعي 4 مرات في الدول الغنية. مصدر ارتفاع الإنتاجية هو التقدم التكنولوجي النابع من البحوث التي تقوم بها جهات خاصة وعامة. ينعكس هذا التغيير الإنتاجي بشكل كبير على الأسعار والكميات المنتجة، كما على مختلف السياسات الزراعية التي تقوم بها الدول والمؤسسات الدولية.
خامساً: في إحصاءات دقيقة تنتجها منظمة التغذية في روما، يتبين أن إنتاج العامل في الدول الأغنى يعادل 50 مرة ما ينتجه العامل في الدول الأفقر.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"