إيمانويل ماكرون و«استقالة التحدي»

03:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

في فرنسا، التي خرجت من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، لعب الجيش دوراً أساسياً في عملية التحول التي قادها الجنرال ديغول قبل أن يؤسس الجمهورية الخامسة في العام 1958. وعرفت العلاقة السياسية - العسكرية فيها توترات بسبب حرب الجزائر ثم استقلالها في العام 1962. وكان للجنرال ديغول، السياسي المحنك والعسكري صاحب الفضل في تحرير بلاده، دوراً أساسياً في التأسيس للعلاقة التي ستحكم فرنسا إلى اليوم ما بين المجالين السياسي والعسكري. وقد استمرت فرنسا بفضل سلاحها النووي ومقعدها الدائم في مجلس الأمن، في احتلال موقع الدولة العظمى رغم أن قوتها العسكرية أخذت بالتضاؤل مع الوقت لأسباب مادية واقتصادية وبسبب الاعتماد على حماية الحليف الأمريكي خلال الحرب الباردة.
في العام 1962 استحدث الجنرال ديغول منصب قائد أركان القوات المسلحة وجعله تابعاً لوزير الدفاع ورئيس الجمهورية مباشرة. ومنذ ذلك الوقت حدث أن استقال رئيس لأركان القوات البرية أو الجوية أو البحرية بسبب خلافات مع السلطة السياسية (أربع استقالات منذ ذلك الوقت)، لكنه لم يحدث أبداً أن استقال قائد أركان القوات المسلحة.
استقالة قائد أركان القوات المسلحة الجنرال بيار دوفيلييه في التاسع عشر من يوليو سابقة تحدث للمرة الأولى منذ استحداث هذا المنصب. وسبب ذلك أن الرئيس ماكرون قرر تخفيض ميزانية الدفاع بمقدار 850 مليون يورو، بعد أن كان قد وعد خلال حملته الانتخابية بزيادتها لتصل إلى ما نسبته اثنين في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي. انتقد قائد الأركان هذا القرار في جلسة اجتماع مغلقة في الجمعية الوطنية وتسربت انتقاداته إلى الصحافة، الأمر الذي دفع ماكرون إلى توجيه تأنيب علني له مذكراً إياه بأنه «قائد» القوات المسلحة وبأن على العسكريين إطاعة أوامره.
تشكل هذه الاستقالة تحدياً لماكرون، الذي منذ وصوله إلى الإليزيه، ما فتئ يعبر عن دعمه ل«الصامت الأكبر» (أي الجيش) والذي تمثل، رمزياً على الأقل، بزيارته إلى القوات الفرنسية في مالي وإلى غواصة نووية وقاعدة عسكرية في فرنسا وفي اعتلائه سيارة عسكرية اجتازت جادة الإليزيه في احتفالات 14 يوليو.
تخفيض الإنفاق العام في ميزانية العام الجاري (4.5 مليار يورو) تسبب لماكرون بانتقادات بقيت ضمن المقبول. لكن طريقته في التأنيب العلني لقائد الأركان والتي اعتبرها العسكريون مهينة وغير مألوفة شكّلت صفعة قوية لهيبته التي حرص على المحافظة عليها تعويضاً لصغر سنه وقلة خبرته السياسية. المعارضة وصفت فعلته ب«النرجسية التسلطية» و«الخطأ غير المسؤول» و«الرئيس الصغير» الذي «لا يرقى إلى مستوى المسؤولية السياسية»..إلخ.
وكان الرئيس السابق هولاند، قد اتخذ قراراً وصف ب«التاريخي» يقضي بوقف الاقتطاعات البشرية والمالية المفروضة على القوات المسلحة منذ نهاية الحرب الباردة. فقد كانت الميزانية الدفاعية تشكل أربعة في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي في ثمانينات القرن المنصرم، واستمرت في التراجع إلى أن وصلت حالياً إلى 1.78٪ من هذا الناتج. لذلك وعد المرشح إيمانويل ماكرون برفعها إلى ما نسبته اثنين في المئة من هذا الناتج تدريجياً من اليوم إلى العام 2022. وقد اعتبر قراره تخفيض الميزانية الدفاعية تراجعاً عن الوعد الانتخابي، لكنه أصر بأنه لا يزال يحترم هذا الوعد، وبأن ما من أحد يمكن له أن يملي عليه كيفية احترام وعوده وبأي طريقة، فهو القائد الأعلى وصاحب القرار.
«كانت النار تحت الرماد» على ما قال الجنرال فنسنت ديبورت الذي يلوم السلطة السياسية على عدم تفهمها لمهنة العسكريين ذات الخصوصية، وبأن «الجنرال دوفيلييه لم يقم سوى بواجبه وهو التعبير عن وجهة نظره بشكل سري أمام لجنة الدفاع في البرلمان. وجلسة الاستماع لا تعني بأن يقوم الجنرال بتكرار رأي الوزير أو الرئيس، بل أهميته في تقديم المعلومات لأولئك الذين يقومون بفعل الحكم حول نتائج السياسات التي يضعونها». من جهته الجنرال شوفانشي اتهم ماكرون بممارسة «غرور في غير مكانه وإهانة علنية لضابط كبير خدم الدولة (...) رئيسنا الشاب أراد أن يبرهن عن سلطته، لكنه لم يكن بحاجة إلى التصرف بهذا الشكل، ولم يكن من لزوم لخطابه الجارح وغير المفيد». من جهته الجنرال المتقاعد فنسنت لاناتا ذهب أبعد من ذلك عندما وصف «تصرف هذا الرئيس الشاب» بأنه «استبداد صبياني». وقد وردت هذه الانتقادات وغيرها في صفحات الصحف والمجلات الفرنسية وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي.
بالطبع لم يرضخ ماكرون للضغوط، بل سارع إلى تعيين قائد أركان جديد للقوات المسلحة هو الجنرال فرانسوا لوكوانتر، الذي كان مديراً للمكتب العسكري لرئيس الوزراء، وسط تصريحات للسياسيين الموالين لماكرون بأن الأزمة ليست أكثر من عابرة، ولن يكون لها أي تداعيات مستقبلية، وبأن الرئيس برهن عن قدرة على الحسم واتخاذ القرار.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"