الأجندة السياسية والعسكرية للصين

02:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

استطاعت الصين مؤخراً أن تتصدر المشهد الجيوسياسي في العالم، ليس لأنها تمكنت من إزاحة واشنطن من صدارة القوى العظمى، فتلك أمنية ما زالت بعيدة المنال، ولكن لكونها باتت قادرة على تحريك المياه الراكدة على مستوى العلاقات الدولية بشكل لافت، وعلى جميع المستويات ولا سيما الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
إذ إنه وإضافة إلى النشاط الدبلوماسي الصيني الهادف إلى الدفاع عن المصالح الصينية عبر العالم، والذي أخذ أبعاداً أكثر جدية مع إطلاق الصين لمشروعها الجديد المتعلق بطريق الحرير الجديد، أفصحت بكين عن رغبتها في تطوير شامل لمنظومتها الدفاعية، وتكوين جيش متقدم تكنولوجياً لمواجهة محاولات واشنطن الهادفة إلى تقويض الاستقرار في محيطها الإقليمي، والتأثير سلباً في علاقاتها الدولية.
وقد ركزت الصين من خلال التقرير الذي نشرته وأشارت من خلاله إلى طموحاتها العسكرية الجديدة، على التهديد الذي باتت تشكله واشنطن على أمنها وأمن العالم في سياق دولي يغلب عليه، يوماً بعد يوم، التنافس المحموم بين الجانبين، حيث سمح إصدار «الكتاب الأبيض» المتعلق بالمسائل الدفاعية للصين، بإعطاء توضيحات مهمة في هذا المجال وصفتها إحدى الوكالات الإخبارية بالنادرة، فيما يخص الإعلان عن توجهات «الجيش الشعبي للتحرير» الذي يقود مسار التحولات في الصين منذ الاستقلال، ويعد أضخم جيش في العالم بتعداد يفوق مليوني مقاتل. ويؤكد «الكتاب الأبيض» أن المنافسة الاستراتيجية على المستوى الدولي تتضاعف وتتزايد حدتها، ويبدو ذلك واضحاً من خلال إعادة الولايات المتحدة الأمريكية تشكيل استراتيجيتها الدفاعية والأمنية عبر اتخاذ إجراءات أحادية الجانب.
ويشير التقرير الصيني أيضاً إلى أن واشنطن أشعلت المنافسة وعمدت إلى تضخيمها بين الدول الكبرى الرئيسية في العالم، ورفعت بشكل كبير من حجم إنفاقها العسكري، وهي تبحث الآن عن إمكانات إضافية في المجال النووي وفي الفضاء والمعلوماتية بما في ذلك الذكاء الاصطناعي ومنظومة الدفاع الصاروخي؛ وذلك ما دفعها إلى إلغاء معاهدة الحد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى بدعوى عدم التزام روسيا بها من جهة، وعدم سريانها على الجانب الصيني من جهة أخرى.
ويمكن القول: إن نشر التقرير الدفاعي الصيني المتضمَّن في «الكتاب الأبيض»، يأتي في مرحلة يميّزها تزايد التوتر بين بكين وواشنطن عسكرياً بالقرب من المياه الإقليمية الصينية، واقتصادياً على مستوى المواجهة التجارية المتصاعدة بينهما منذ سنة 2018.
ويرى المراقبون أن الصين تطمح من خلال استراتيجيتها الدفاعية الجديدة إلى تطوير وتعزيز قدراتها العسكرية في مجال التكنولوجيات المتقدمة، وبخاصة أنها ما زالت متأخرة بعض الشيء مقارنة بالمؤهلات التي تمتلكها الجيوش الأخرى، ولا سيما الجيشين الأمريكي والروسي اللذين يحتلان المراتب الأولى في المجال العسكري.
كما تجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، دفعت الصين إلى العمل على تحقيق استقلالية أكبر على المستوى التكنولوجي من خلال الاعتماد على قدراتها الذاتية في صناعة وتطوير المعدات والبرامج التقنية المتقدمة التي يمكن أن يستفيد منها الجيش الشعبي الصيني، وقد تكون أزمة شركة «هواوي» الأخيرة، أفضل تجسيد لطبيعة الرهانات التكنولوجية للصين في المرحلة المقبلة.
ويجب الاعتراف في هذه المرحلة بأن الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية القوة المهيمنة، والصين بوصفها القوة الصاعدة، بات يتحكم بشكل لافت في التوازنات الجيوسياسية للعالم في سياق العلاقات الدولية الراهنة، حيث تملك الصين ثاني أكبر موازنة عسكرية في العالم، وهي تعمل حالياً على تقليص الفجوة التي تفصلها عن الولايات المتحدة على مستوى عناصر القوة العسكرية المستندة بشكل أساسي إلى التفوق التقني في مجال المعلوماتية والذكاء الاصطناعي، وقد استطاعت أن تحقق في هذا المجال إنجازات كبرى تدعو إلى الإعجاب.
وتعتمد الاستراتيجية الدفاعية لبكين على عقيدة عسكرية غير توسعية هدفها الأساسي إعادة توحيد التراب الصيني من خلال السعي إلى إعادة تايوان إلى السيادة الوطنية بالوسائل السلمية، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها واشنطن من أجل جعل هذه الجزيرة شوكة مؤلمة في خاصرة التنين الصيني. ولذلك، فإنه وعلى الرغم من التطور المتزايد للقوة الصينية، فإن أجندتها السياسية والعسكرية تستند بالدرجة الأولى إلى رهانات إقليمية تتصدرها صراعات حدودية مع بعض دول الجوار، ولذلك فإن غاية ما تصبو إليه في هذه المرحلة هو المحافظة على وتيرة تقدمها الاقتصادي مع العمل على تأمين طرق إمدادات الطاقة عبر المياه الدولية.
ويمكننا أن نخلص إلى أن الطابع الإقليمي للأجندة السياسية والعسكرية للصين، يجعلها تعتمد على المستوى الدولي، على عناصر القوة الناعمة ولا سيما الاقتصادية منها بالنظر إلى الحجم الهائل للاستثمارات الصينية عبر العالم، وبخاصة في أوروبا من خلال سعيها الحثيث إلى الالتفاف على الحصار الأمريكي عبر تبني استراتيجية اقتصادية قائمة على الاستثمار المنتج وعلى تطوير التكنولوجيات الحديثة. بيد أن محدودية الطموحات العسكرية للصين، الناجم بالدرجة الأولى عن تعقيدات وضعها الداخلي، لا يمكنه أن يمنع الجيش الشعبي للصين من امتلاك مفاتيح حاضر الدولة الصينية، وربما من التحكم في مستقبل السلم العالمي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"