الأحوال المدنية في الشبكة الافتراضية

07:35 صباحا
قراءة 4 دقائق

من منا لم يعد اليوم أسيراً؟ نعم، نحن أسرى وسجننا شبكة تربطنا بأسرى آخرين على سطح الأرض، قد لا نعرفهم ولا نعرف ملامحهم ولكننا متواصلون معهم .

إن الشبكة العنكبوتية قادرة على اصطياد البشر في أنحاء المعمورة تماماً كما يصطاد العنكبوت ضحاياه في شبكته الواهية . . وشبكة الإنترنت تربط الناس ببعضهم البعض، تخلق صداقات بينهم، أو تجعلهم أعداء متحاربين عبرها .

إنها شبكة لم يسبق للإنسان أن وقع في مثلها، وهي مكونة من سلاسل افتراضية تعمل شعوب الأرض داخلها وفق قوانين أمنية تمنحها شعوراً بالأمان، لكنه أمان وهمي يحول الدنيا من حولنا إلى سراب ليس أكثر، سراب تقدمه شاشات الحاسوب وغيرها من أدوات التواصل ليبعث في النفوس إحساساً بالتقارب والتخلص من الشعور بالوحدة . وها نحن اليوم واقفون على منصة التواصل الافتراضي، حيث يستطيع أي شخص أن يقترب بنقرة زر واحدة ممن يريد سواء كان حبيباً أم عدواً .

لكننا في الواقع، فقدنا مشاعر الحب والرومانسية، فلم يعد للأغاني العاطفية تأثيرها في النفوس، ولم يعد الحبيب مضطراً إلى تسلق الجبال الوعرة، واجتياز الصحارى وتحدي رمالها وكثبانها ليصل إلى أحباء ينتظرونه بكل شوق . لقد سلبت مشاعر الحب في هذا العالم الوهمي، وحلت مكانها مشاعر قاسية قد تبلغ حد البغض لدى البعض، وأصبح من يقطن في أحد مواقع التواصل الاجتماعي تابعاً أو متبوعاً . ولأن الانسان بطبيعته يتفاعل مع من يفهم لغته، فإن رواد مواقع التواصل يشكلون تكتلات ومجتمعات افتراضية بشكل تلقائي وعفوي، وعندما ينطلق صوت ينادي بفكرة ما، يأتيه الدعم من كل حدب وصوب وبصورة مباغتة تجعل الفكرة مهما كانت تافهة ذات قيمة ومنطق .

ورغم أن الصراع يدور في عالم غير واقعي، فإن هناك حدوداً ترسم، ومنافذ تراقب، وجيوشاً تعد لتكون متأهبة بمجرد أن يصدر صوت فيه نبرة تحدٍّ يحاول تجاوز الخطوط الحمر . وهنا تتغير لهجة المخاطبة، وتنطلق التهديدات، وتلمح على الأبواب معركة تنتظر الضوء الأخضر! صحيح أنه عالم افتراضي يتحرك داخل شبكة وهمية، لكنه نسخة مطابقة لعالمنا الواقعي بكل تفاصيله .

لقد أدركنا أن عالم الشبكة الافتراضية لا يتكون كعالمنا الملموس من الحجارة والطين، وأنه يتكون من أرقام وحسابات، وأن على من يعيش فيه أن ينادي بما ينادي به الآخرون، فصوت المرء فيه لا يمثل قناعاته، بل قد يكون مخالفاً لها تماماً . ومع ذلك يستمر الناس في عالم لا قوانين تلجمه، ولا قواعد سلوكية تحكمه، عالم ليس للحرية فيه حدود تضفي عليها ذلك المعنى الجميل المعهود .

إنّ انبهار العالم بشبكات التواصل الاجتماعي لا يعتمد على نوعية الأصوات إن كانت لطيفة أم لا، بل يعتمد على عدد المؤيدين لتلك الأصوات رغم أن الكثير منها لا معنى له ولا يحمل فكرة معينة . وبدلا من أن نعيش في عالم تنطلق فيه الأصوات المؤثرة، نعيش في عالم مشوش تغلب عليه الفوضى والضوضاء .

في العالم الافتراضي تعلو أصوات غاضبة لتملأ فضاءه الواسع حيث يتحول الانتقاد إلى حرب باردة بين المجتمعات، فترى من تملكهم الغضب من الذين تولوا القيادة، يحاربون بواسطة أتباعهم ومؤيديهم، ويوجهون ضرباتهم المتمثلة بالكلام البذيء على أهداف يجهلونها، ويكيلون الشتائم والاتهامات لأشخاص لا يعرفونهم بمجرد أنهم عارضوا فكرتهم .

ويخوض الناس حرب الكلمات، ويغوصون في الوحل لأجل مواضيع بديهية وأفكار تافهة . وتصبح المواقع الاجتماعية كأنها شارع يشتد فيه العراك بين الخصوم، ولكن عدد المتفرجين فيه ليس محدوداً كما في الشارع الواقعي، إنما يتجاوز الملايين .

إنه عالم لا تحكمه القوانين فترتكب فيه الجرائم كل يوم، وهي جرائم نفسية تسود فيها الشحناء والبغضاء . . أهذه هي الحرية التي نريدها؟ حرية تجرّ علينا الويلات وترمينا في بحر الأذى؟

من المفترض أن يكون العالم الافتراضي ملاذاً للشعوب الهاربة من التمييز الذي نجده في عالمنا الحقيقي، لكن الكثير من قاطني هذا العالم ممن تملكوا أماكنهم واستقروا فيها، تمكنوا من صنع عالم مدني خارج إطار العالم الافتراضي . ولم تعد الحرية المنشودة في عالمنا المتحضر بين أيدينا، فمن حطوا رحالهم في المواقع الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر وغيرها، تخلوا عن الشعور بالمسؤولية، وضربوا بضرورة احترام إخوتهم في الانسانية عرض الحائط، واستوطنوا في عالم بعيد عن الواقع يفعلون فيه ما يشاؤون .

هل يخطر في بالك عندما تنشىء حساباً في أحد مواقع التواصل وتتلقى وعوداً وتطلب منك التزامات، أنك ستفاجأ بعدم احترام القوانين وبالبعد عن أي التزام أخلاقي، وأن الوضع سيكون مختلفاً تماماً؟

ولأن هناك زيفاً وخداعاً من عشرات مواقع التواصل الاجتماعي، فقد فضل البعض الانسحاب والاحتفاظ بكرامته، بينما اتخذ البعض الآخر لنفسه ركناً فيها منتحلاً شخصيات وأسماء مستعارة، ومتحدثاً بلسان الآخرين، وتشكلت جماعات وطوائف وجدت في العالم الافتراضي أرضاً خصبة لا تجدها في العالم الواقعي .

لقد كانت المواقع الاجتماعية حلماً يحول العلاقات بين البشر إلى أفضل ما يكون ليشعروا بمتعة التواصل، لكن اتضح بعد سنوات أن الحلم المنشود قد بلغ من القبح مبلغه، لذا قرر الكثيرون إنهاء حياتهم الافتراضية، وتدمير شخصياتهم الوهمية، فألغوا حسابهم مودعين العالم الافتراضي برمته .

قد يكون الانسحاب الخيار الإيجابي الوحيد في العالم الوهمي، وهو خيار لا يمكننا تطبيقه في الواقع بحيث ننسحب ونمضي بعيداً تاركين الآخرين في مواقعهم، ساعين وراء المزيد من الأوهام .

عندما يزعجك التواصل في المواقع الاجتماعية، الغ حسابك واقطع الاتصال، وتنفس هواء الحرية .

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​رئيس تحرير صحيفة Gulf Today الإماراتية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"