الأزمات المالية ليست أوروبية فقط

02:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

منذ سنة 2008، تتوالى الأزمات المالية الكبيرة في معظم الدول الأوروبية. نجم الأزمات هو في اليونان التي تضرر اقتصادها كثيراً ولم يتعاف بعد. في الثمانينات كان الناتج الفردي اليوناني يفوق الناتج الفردي في إيرلندا والبرتغال وإسبانيا، أما الآن فالأوضاع تختلف. انخفض الناتج المحلي الفردي اليوناني من 22600 يورو في سنة 2008 إلى 17600 يورو في سنة 2014 أي انخفاض قدره 22%. اليوناني أفقر أو أوضاعه أسوأ أقله بنسبة الربع مما ينعكس سلبا على مستوى المعيشة. أسوأ بكثير ارتفاع نسبة البطالة من 7,8% في سنة 2008 إلى 26,6% في سنة 2014 ما يشير إلى عمق المشكلة وامتدادها إلى كل طبقات الشعب وخاصة الشباب. وصل مع بداية أزمة 2008 عجز ميزان الحساب الجاري إلى 15,9% من الناتج، عجز الموازنة إلى 6,5% والدين العام إلى 103% من الناتج أكثر من ثلاثة أرباعه خارجي.
أصيب القطاع المصرفي اليوناني بسيولته ورأس ماله ما أوجب زيادة رأس المال بنسب كبيرة في سنة 2013. أصبحت اليونان في سنة 2012 الدولة الغربية الأولى التي أفلست عملياً أي توقفت عن تسديد ديونها العامة الداخلية والخارجية ما استوجب إعطاء الدولة قروضاً جديدة سريعة. أقرضها الثلاثي صندوق النقد، المصرف الأوروبي والوحدة الأوروبية مليارات ذهب قسم مهم منها لتسديد الديون وليس للإصلاح أو معالجة مشاكل الاقتصاد البنوية. أصيبت اليونان إذاً بمصارفها وموازنتها وتوقفت المصارف الأجنبية عن إقراض الدولة. المشكلة مترابطة والحل سيكون مترابطاً أيضاً، إذ إن حل جزء منها لا يكفي فتتفجر الجوانب الأخرى.
دراسة للاقتصاديين «جيفري ساكس» و«أندرو وورنر» تشير إلى النتائج التالية:
أولا: انخفاض الناتج المحلي الإجمالي كان في اليونان أكبر بكثير من دول أخرى. بين سنتي 2009 و 2015، انخفضت الودائع في المصارف اليونانية بنسبة 50% نتيجة ضعف الثقة بل الخوف من المستقبل. لم يحصل هذا الانخفاض في الدول الأخرى التي عرفت أزمات مماثلة كإيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا. ربما أن الخلافات السياسية داخل اليونان وتضارب وجهات النظر ساهمت في تعميق الأزمة أكثر من الدول الأخرى.
ثانيا: ترافق انخفاض الناتج مع انخفاض كبير في نسبة الاستثمارات من هذا الناتج، ما قوض عملية النهوض التي لا بد أن تأتي من الاستثمارات.
ثالثاً: المشكلة الأساسية في اليونان كانت نسب الديون المرتفعة في بداية الأزمة للقطاعين العام والخاص والمستهلكين، ما يشير إلى فوضى مشتركة في إدارة الموازنات.
رابعاً: يعود الانخفاض الكبير للناتج اليوناني في بداية الأزمة إلى التقشف القاسي الذي فرضته الحكومة على نفسها تحت الضغط الخارجي ولمعالجة النزف المالي، إضافة إلى تعثر الاقتراض الجديد ما سبب ارتفاعا كبيرا في التكلفة.
خامساً: مع تطور الأزمة وامتدادها، تبين وجود مشاكل أخرى أو تقصير وتباطؤ كبير في معالجة أزمة الديون التي لا يمكن تسديدها والتي دامت أكثر بكثير مما يجب. يشير هذا الواقع إلى عدم القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة بسرعة ما يرفع من حجم الخسائر. تبين أيضا أن الاقتصاد اليوناني يفتقد إلى التنافسية في أسواق السلع والخدمات ما يؤخر تجاوب الاقتصاد مع القرارات الرسمية. جمود الأسعار خطر إذ لا تتجاوب مع عمليات العرض والطلب، وهي أبسط ركائز وخصائص النظام الاقتصادي الحر.
مشاكل اليونان إذاً ليست فقط مشاكل قطاع عام وسوء إدارة للدولة، إنما أيضاً مشاكل أسواق وقطاع خاص وعدم وجود مرونة تسمح للأسعار بالتحرك. إمكانية خروج اليونان من الوحدة النقدية الأوروبية في وقتها رفعت نسبة المخاطر الاقتصادية والمالية وأثرت سلباً على الاستثمارات وأضعفت سيولة المصارف. زال هذا الخطر اليوم مع تحرك الثلاثي المالي بسرعة لمعالجة الموضوع وتوفير المال لليونان. هل انتهت الأزمة المالية اليونانية اليوم؟ حتماً لا، لكن المشاكل المتراكمة لا تحل بين ليلة وضحاها ولا بد للحكومة الحالية من أن تأخذ القرارات الصعبة تدريجياً ليس فقط للحل وإنما لمنع تكرار هذه الكوارث الصعبة. يقول الاقتصادي «جوزيف ستيغليتز» إن إنقاذ اليونان كان إنقاذاً للمصارف المقرضة وليس للاقتصاد اليوناني. يقترح على المصرف المركزي الأوروبي أن يهتم بالبطالة أيضا وليس بالتضخم فقط. يطلب من الدول الأوروبية أن تعدل سياساتها الضرائيبية كي تخفف من فجوة الدخل بين الشعوب. يشير «ستيغليتز» إلى فشل تجربة «اليورو»، وهو لم يكن متحمسا لها منذ البداية فأصدر منذ أسابيع كتاب جديد مهم عن الموضوع.
إذا كانت أوروبا هي مركز الأزمات الكبيرة الحالية، فهي لم تكن يوما وحدها. لا ننسى أزمات آسيا وأمريكا اللاتينية. تتكرر هذه الأزمات بقساوتها فيدفع الفقراء دائماً أكبر الأثمان. لا ننسى الأزمتين المكسيكية والأرجنتينية في سنة 1995 والآسيوية في سنة 1996 والروسية في سنة 1998. لم تنجُ هذه الدول كليا بعد من أزماتها الماضية المستمرة، إنما أوضاعها أفضل اليوم. تتكرر التجارب الصعبة لأن الحكومات والشعوب تنسى بسرعة، بل لا تأخذ العبر والدروس بجدية كافية.
. أخيرا، يشير صندوق النقد الدولي إلى عدة دروس يجب اقتباسها من الأزمات المالية حتى اليوم وهي:
أولاً: أهمية سعر الصرف المتحرك واستيعابه للأزمات كما حصل مع الروبل في روسيا.
ثانياً: التأقلم المالي مع الأزمات يجب أن يتم تدريجيا وبهدوء. المهم أيضاً هو محتوى السياسات المالية وليس حجمها فقط.
ثالثاً: يجب أن تتحقق الإصلاحات مع المعالجات الآنية لأنها تساهم في زيادة الإنتاجية والتنافسية في الاقتصادات المأزومة.
رابعاً: يجب أن تتحرك الحكومات بسرعة في معالجة مشاكل الدين والسيولة المصرفية كما الرقابة وفي تطبيق الإجراءات وعدم انتظار الخارج، وهذا ما أكدت عليه الأزمة اليونانية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"