الأزمة الأوروبية مستمرة

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. لويس حبيقة

تواجه أوروبا أزمات مصيرية كبيرة تهدد هويتها وتمنع عملياً تعافيها من مشاكلها المالية والاقتصادية. والأسباب خارجية منها النمو الصيني وتأثيره في الصادرات الأوروبية كما نسب الفوائد على الدولار وتأثيرها في أسعار الصرف خصوصاً بين اليورو والدولار. تتلخص الأزمة الداخلية عملياً في نسب نمو منخفضة ونسب بطالة مرتفعة. نسب البطالة خطرة اجتماعياً وأمنياً. في الوحدة الأوروبية، بلغت نسبة البطالة 11% سنة 2015 أو ضعف النسبة الأمريكية. تكمن النسبة الأكثر خطورة في إسبانيا، حيث بلغت البطالة 21,8% السنة الماضية ومتوقع 19,9% لهذه السنة. نسب النمو تقع في 3,1% في سنة 2015 ومتوقع 2,7% هذه السنة. في فرنسا، البطالة 10,2% والنمو 1,2% السنة الماضية ومتوقع قدره 9,9ِ% للبطالة ونمو 1,5% هذه السنة. يشير الواقع إلى صعوبة الانتقال إلى ظروف أفضل مهما فعلت الحكومات. الهدف هو تخفيف الخسائر أو الأوجاع عن المواطنين أينما كانوا.
لا يمكن التخفيف من عبء مشكلة النازحين على جميع الأصعدة، علماً أن من ينزح هو مظلوم ويترك دولته قسراً إذ لا خيار آخر له. خلقت مشكلة النازحين مشاكل مالية ومادية، ومن الممكن أن تسبب خللاً ديموغرافياً إذا تفاقمت. الاتفاق الأوروبي التركي لا يحل مشكلة النزوح إنما يخفف من تكلفته على أوروبا التي ربما لا تقيم جيداً الخطر التركي. فإلغاء التأشيرات للأتراك يمكن أن يسبب نزوحاً تركياً إلى أوروبا ربما يفوق في العدد النزوح العربي والأفريقي. أوروبا مضطرة اليوم إلى توقيع اتفاق غير متحمسة له وربما لا خيار آخر لها أيضاً. الأتراك من ناحيتهم يستفيدون من الحاجة الأوروبية، سياسياً واقتصادياً ومالياً إلى أقصى الحدود. هذه الاستراتيجية المدروسة والممارسة تركيا منذ عقود حتى لا نقول قرون نفتقدها عربياً حيث الخلافات الداخلية تفوق في حدتها الخلافات الخارجية. إذا احتسبنا كافة المؤثرات على الاقتصاد الأوروبي من النزوح، نرى أنها إيجابية بحدود 0,25% من الناتج بسبب الإنفاق العام على المعالجة أو المواجهة. في كل حال تطرح مشكلة النازحين موضوع الحدود ومصير اتفاقية «شينغين» وبالتالي مصير الوحدة الأوروبية يبقى على المحك.
هنالك مشاكل أخرى تواجه أوروبا لا تقل خطورة وهي ضربات الإرهاب في مدنها أهمها مؤخراً في باريس وبروكسيل. هل يمكن حماية السكان الأبرياء في وقت ينبع الإرهاب من أقلية في الداخل وغير مستوردة؟ هذه الأقلية مولودة في أوروبا وتحمل الجنسيات الأوروبية، بالتالي من الصعب جداً محاربتها ومراقبتها. هذا الإرهاب الجديد يتحمل مسؤوليته الجميع أي الدول المضيفة التي ربما لم تحسن استيعابهم، كما يتحمله أيضاً الموطنون أنفسهم الذين يتصرفون كما لا يقبله العقل والقلب والمنطق. للجاليات العربية والإفريقية دور كبير في التنبه لتصرفات هذه الأقلية المضرة للجميع. يظهر أيضاً أنه كان هنالك تقصير من قبل السلطات الأمنية من نواحي الاستخبارات والرقابة والتحرك سمحت للمجرمين تحقيق أهدافهم المضرة بالمواطنين أياً كانت أصولهم وأياً كان تواجدهم.
هنالك مشكلة ثالثة كبيرة تواجه أوروبا وهي السياسات التقشفية المتبعة نتيجة الأزمة المالية والتي تسبب الغضب الشعبي تجاهها. ما نشهده من غضب يوناني كبير ومتجدد يمكن أن يسقط حكومة «تسيبراس» ويسبب انتخابات مبكرة تعيد الديمقراطيين إلى السلطة. قيمة الديون اليونانية الخارجية حتى سنة 2057 تبلغ 320 مليار دولار، أي ثقل سنوي لخدمة الدين يوازي 4,1% من الناتج المحلي. هذا ثقل هائل يفوق الإمكانات الحقيقية للاقتصاد. لتحسين الوضع الاقتصادي، هنالك جهود كبرى وموجعة يجب أن تبذل لأن قدرة الشعب على دفع ضرائب إضافية هي محدودة. تجري اليوم محاولات لتخفيف حجم وقيمة برامج التقاعد أي ضرب المواطن في آخر عمره وهو الظلم بحد ذاته. هنالك اقتراح يمكن أن يقدم وهو أن تصرف الأموال المسددة للمقرضين من قبلهم على شراء سلع يونانية أو على الاستثمار في اليونان مما يساهم في تحفيز النمو وبالتالي يخفف مع الوقت الثقل السلبي للاقتصاد اليوناني على أوروبا. على كل حال لا بد من فهم أوضاع المقترضين كما المقرضين الذين يفرضون الضرائب على مواطنيهم ليس لمعالجة سوء الإدارة في اليونان بل للقيام بمشاريع مفيدة لهم في بلادهم. بالتزامن مع التقشف القسري، تستعين الحكومات الأوروبية بالمصرف المركزي لزيادة الكتلة النقدية وبالتالي تنشيط الاقتصاد نقدياً. يمكن الدفاع عن هذه السياسة في غياب التضخم وخطره أو احتمال حصوله في هذه الظروف. يقوم المصرف المركزي الأوروبي بشراء سندات خزانة وأصول في الأسواق شهريا بقيمة 63,6 مليار دولار، وذلك حتى شهر آذار من السنة المقبلة. من مخاطر التحفيز النقدي إحداث خلل أو سوء توازن في أسعار الأصول نتيجة تحرك الشراء النقدي في اتجاهات معينة. يسعى المصرف المركزي الأوروبي أيضاً عبر هذه السياسة إلى تجنب الانكماش أو هبوط مؤشر الأسعار، وبالتالي محاولة إحداث بعض التضخم شرط ألا يتعدى 2%. التضخم لم يعد العدو النقدي بل هنالك رغبة به. جميع هذه الأمور بالإضافة إلى المشاكل العادية التي يعانيها كل اقتصاد تجعل النمو الأوروبي خفيفاً أي تبعاً لصندوق النقد 1,9% السنة الماضية و 2% هذه السنة مقارنة ب 3,6% كمعدل للاقتصاد العالمي. في الوحدة النقدية الأوروبية، بلغ النمو 1,5% السنة الماضية ومتوقع 1,6% لهذه السنة. اليونان ليست وحدها مصدر القلق، بل هنالك البرتغال وإسبانيا علماً أن الأخيرة أهم بكثير اقتصادياً. الشلل الإسباني نتيجة عدم القدرة على تشكيل حكومة والدعوة لانتخابات جديدة ربما تعطي نفس النتيجة هي جميعها مصدر قلق للمجتمعين الأوروبي والعالمي. حجم إسبانيا يدفعنا للقول بأن قسم كبير من الأزمة الأوروبية اليوم يتوقف على حل المشكلة السياسية وعلى عودة إسبانيا إلى لعب دورها الإيجابي في القرارات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"