الإسلام والسياسة في آسيا الجنوبية الشرقية

03:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
يمثّل الإسلام نصف السكان تقريباً في آسيا الجنوبية الشرقية، لاسيما في مناطق النزاعات، لكنه يعاني تهميشاً مزدوجاً، فالمختصون بهذه المنطقة يجهلون أو يتجاهلون الإسلام فيها والمختصون بالإسلام يجهلون هذه المنطقة ولا ينظرون إليها كجزء من العالم الإسلامي .
وكان سكان هذه المنطقة الأصليون قد اعتنقوا الإسلام، على أيدي دعاة من الشرق الاوسط وآسيا الجنوبية، منذ القرن الرابع عشر أي متأخرين عن معظم المناطق الأخرى . ثم أصبح الإسلام دين الأغلبية في جزر جنوب شرق آسيا وفي أرخبيل إندونيسيا وبعض مناطق جنوبي تايلاند والفلبين، وهؤلاء احتفظوا بتقاليدهم الثقافية والدينية وافتخارهم بالانتماء إلى "الأمة الإسلامية العالمية" .
ولفهم وزن الإسلام في الظروف السياسية الحالية لجنوب شرق آسيا ينبغي التمييز بين المناطق، حيث يشكل المسلمون أغلبية السكان وتلك التي لا يزالون فيها أقلية . ولا ننس أن الإسلام يعمل بطريقة مختلفة في التشكيلات السياسية في الدولتين ذواتي الأغلبية الإسلامية، أي ماليزيا وإندونيسيا .
دستور ماليزيا، وهي ملكية دستورية تعددية عرقية ودينية، يقر بحرية الدين ويعتبر الإسلام دين الدولة .ولأن الصينيين (32 في المئة من السكان) طبعوا الاقتصاد والتجارة بطابعهم والهنود (7 في المئة) احتلوا دوراً على المستوى المالي يتخطى أهميتهم الديمغرافية، عمدت الحكومات الماليزية إلى ممارسة التمييز الإيجابي لمصلحة الماليزيين (أبناء الأرض) فساعدتهم على تحصيل العلم والاستفادة من الاستثمارات . وفي تنافسها على الأصوات الانتخابية استخدمت الأحزاب السياسية الدين، الأمر الذي أتاح ازدهاره وتزايد نفوذه .
لكن إندونيسيا، رغم أنها البلد الإسلامي الأكبر في العالم، أبقت على مسافة مع الدين غداة الاستقلال، ذلك أن الاستعمار الهولندي كان يتعاطى بسلبية مع النشاطات الاجتماعية والسياسية ذات الطابع الإسلامي . لكن السلطات تبدي اليوم الكثير من التسامح حيال الجمعيات الإسلامية الشعبية العاملة في الحقول الاجتماعية والتربوية . وبعض هذه الجمعيات قديم الوجود (منذ العام 1921) وبات لها ملايين المحبذين والمنتسبين .
هذا لا يعني غياب أي نشاط سياسي إسلامي في إندونيسيا . ففي أواسط القرن المنصرم ازدهر حزب "ميسومي" الإسلامي ووصل زعيمه محمد نتسير إلى رئاسة الوزراء في العام 1950 . لكن هذا الحزب فشل في تعديل الدستور بغية فرض الشريعة الإسلامية أو الإسلام كدين للدولة الإندونيسية . بدل ذلك فان القوميين العلمانيين الذين قادوا البلاد تحت زعامة سوكارنو، وافقوا على تقديم تنازل بسيط واحد هو إلزام الإندونيسيين، في الدستور، بعبادة إله واحد . وبسبب ذلك تعرضت الجمهورية الناشئة، في خمسينات وستينات القرن الماضي، إلى تحديات لسلطتها من قبل جماعات انفصالية في شمال سومطرة في آشة وفي غرب جافا وجزيرة سولاويزي . كان يجب انتظار الانقلاب العسكري الذي قاده سوهارتو، في العام ،1956 حتى تمد الحكومة يدها نحو مسلمي "السانتري" وتدمج مسلمين تكنوقراطاً ومهنيين في سياسات التنمية الاقتصادية، ما سمح بعودة ولو خجولة للإسلام في الساحة العامة .
في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم كانت حكومات عديدة في العالم تواجه الإسلام الراديكالي . لكن في إندونيسيا كانت الحكومة والناشطون المسلمون يعملون من أجل ما سموه بالإسلام "الثقافي" و"المدني" وحتى "الكوسموبوليتي" .
بعد سقوط سوهارتو، في 12 مايو/أيار ،1989 كان على الحكومة الجديدة أن تجد نفسها في مواجهة عنف ديني على يد ناشطين إسلاميين كانوا يحتجون على الفساد والدكتاتورية تحت حكم سوهارتو . ومع بداية الألفية الجديدة تمحورت الحياة السياسية في إندونيسيا بين سياسيين وإسلاميين معتدلين من جهة، وإسلاميين راديكاليين من الجهة المقابلة .لكن مع مسار الدمقرطة منذ انتخابات العام 1991 بدا واضحاً أن الجهات الراديكالية تخسر من شعبيتها وبأن المعادلة التي اقترحها الحزب الديمقراطي بزعامة الرئيس "سوسيلو بانبانغ يودهويونو" تكسب المزيد من الاهتمام . هذه المعادلة تقوم على خليط من الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والمحافظة الاجتماعية، بطريقة تذكر بحزب العدالة والتنمية في تركيا .
أما عن تايلاند والفلبين فقد شكلا حدوداً بين العالم الماليزي وآسيا الجنوبية الشرقية ومنطقة الباسيفيك .وبانتقاله إلى الشمال خسر الإسلام بعضاً من نفوذه وترك مكاناً للإرث البوذي الإبراهيمي الهندوصيني ولبعض النفوذ المسيحي في الممتلكات الآسيوية لإسبانيا - التي تديرها واشنطن- على طول الحزام الباسيفيكي . إن ظهور الدولة الحديثة خلال العصر الذهبي للامبريالية الغربية غيّر هذه "الخطوط السميكة" إلى حدود واضحة محددة . ومع وصول الايديولوجيات القومية أضحت هذه الحدود خطوط تماس في نزاعات، ما أدى إلى انتفاضة أقاليم ومقاطعات جنوبي تايلاند والفلبين ضد الحكومات المركزية في بانكوك ومانيلا .
ومن المهم ملاحظة أن الدين ليس إلا عاملاً من عوامل أخرى إثنية لغوية وقرون طويلة من التاريخ السياسي الثقافي المشترك، في تشكل الهوية المتعددة لشعوب آسيا الجنوبية الشرقية الساحلية . ورغم ذلك فمع عودة العنصر الديني في نهاية القرن العشرين إلى السياسة العالمية أصبح الإسلام مرئياً أكثر مما كان عليه من ذي قبل . وفي الخط الواصل ما بين تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 وبالي 2002 و2005 وبزوغ منظمات مثل أبو سياف المتأرجحة بين "الغيريللا" والعصابات فإن المطالب بالانفصال أو الحكم الذاتي يُنظَر اليها كإسلام سياسي أو كأصولية إسلامية أو حتى كارهاب إسلامي . واختصار الإسلام إلى مجرد عنصر سياسي يشكل وجهاً من النزعة العالمية للدراسات الدينية، ما يعمي عن تعقّد الهوية المسلمة الجنوب شرقي آسيوية بفعل الجهل الساذج أو الإهمال المتعمد .

د .غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"