الاستثمار في مصر

02:28 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أيمن علي *

تبقى المعضلة الحقيقية في الاستثمار الأجنبي المباشر الذي لم يتجاوز 6.6 مليار دولار في النصف الأول من العام المالي الحالي، وهو المعدل ذاته تقريباً للعام الماضي مقارنة مع ارتفاعه بنسبة 11% في 2016-2017.
ربما كان الموضوع الرئيسي للحديث في المقاهي وغيرها في مصر هو انتظار الناس لارتفاع الأسعار الشهر المقبل مع الحزمة الجديدة من رفع الدعم عن الطاقة (وقود السيارات والكهرباء) وما يتبعه في السوق المصري من ارتفاع أسعار كافة السلع والخدمات تقريباً سواء كانت تعتمد على النقل أو استهلاك الكهرباء أم لا. ومع ارتفاع معدل التضخم المتوقع سيكون صعباًَ على البنك المركزي المصري خفض سعر الفائدة، رغم التحسن في سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، كما فعل بداية العام. ومع أن ذلك يجعل السوق المصرية هدفاً للأموال الساخنة إلا أنه يضعف قدرة القطاع الخاص على التوسع نتيجة زيادة كلفة الاقتراض (معدل الفائدة عند 16.75 في المئة). ومع أن نسبة البطالة التي ارتفعت بشكل صاروخي بعد تغييرات 2011 تراجعت إلى مستوى يقترب من الرقم الواحد، لكن معدل الزيادة السكانية يعني حاجة الاقتصاد للتوسع ربما بضعف معدل نموه الحالي ليستطيع استيعاب قوة العمل العاطلة والتي تضاف سنوياً.
وما تسمعه في المقاهي والشوارع في مصر لم يتغير كثيراً منذ أكثر من عامين، إذ ما زال الجمهور العادي يعاني زيادة الأسعار وجمود المرتبات وهي السياسة التي مكنت الحكومة من ضبط أرقام الاقتصاد الكلي ليس فقط بما يتسق باقتراضها 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي ولكن أيضاً بما يحسن تصنيف البلاد من قبل المؤسسات الدولية وهو ما يعني استمرار قدرتها على الاقتراض.
وفي إبريل، رفعت مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني تصنيفها لسندات الدين الحكومية المصرية بالعملات الأجنبية والمحلية إلى درجة B2 من درجة B3 مع تغيير نظرتها المستقبلية من إيجابية إلى مستقرة.
وبررت موديز في تقريرها رفع التصنيف الائتماني بأن الإصلاحات الاقتصادية والمالية المستمرة في مصر كفيلة بدعم تحسن مستمر وإن لم يكن كبيراً في المؤشرات المالية ونمو الناتج المحلي الإجمالي. وعزت تلك الثقة الإيجابية إلى قاعدة التمويل المحلية القوية في مصر وقدرتها على تلبية الاحتياجات التمويلية للحكومة رغم استمرار المديونية المرتفعة وكلفة خدمة الديون.
أما تغيير النظرة المستقبلية لمستقرة بدلاً من إيجابية فهي تحسب للعوامل السلبية المتمثلة في استمرار ارتفاع الاحتياجات التمويلية مع ضعف القدرة على تحمل الدين، إضافة إلى التحدي الأكبر المتمثل في التحول إلى نموذج يعتمد على القطاع الخاص يدعم زيادة النمو وتقليل الاحتياجات التمويلية للحكومة.
جاء قرار موديز على الرغم من أن الأرقام الرسمية الصادرة عن البنك المركزي المصري مطلع الشهر حول مؤشرات الاقتصاد ليست جيدة كما سبق في العام السابق مثلاً. فقد اتسع العجز في الحساب الجاري في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2018 (الربع الثاني من العام المالي 2018-2019 الذي يبدأ في يوليو) ليصل إلى 2.1 مليار دولار مقابل 1.78 مليار دولار للفترة ذاتها من العام المالي السابق على الرغم من التحسن في عائدات السياحة وقناة السويس.
ويعود العجز في أغلبه إلى الخلل في الاستثمارات الأجنبية التي شهدت خروج رؤوس أموال بنحو 2.65 مليار دولار في تلك الفترة مقارنة مع 540.7 مليون دولار فقط في الفترة ذاتها من العام السابق. وتراجع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 1.74 مليار دولار مقابل 1.9 مليار دولار في الربع الأخير من 2017.
في الوقت الذي ارتفعت فيه عائدات السياحة في تلك الفترة لتصل إلى 2.86 مليار دولار مقابل 2.28 مليار دولار للفترة ذاتها من العام المالي الذي سبقه. وفي تلك الفترة ارتفعت عائدات تصدير البترول إلى 3.2 مليار دولار، مقابل 2.03 مليار دولار للربع المقابل في العام المالي السابق، بينما انخفضت كلفة واردات البترول إلى 2.36 مليار دولار، مقابل واردات بقيمة 3.23 مليار دولار للفترة المقابلة.
وتراجع العجز في الميزان التجاري ليصل إلى 9.36 مليار دولار مقابل 9.84 مليار دولار في الربع الثاني من العام المالي 2017-2018 مع ملاحظة أن البنك المركزي أضاف الاستثمارات في قطاع البترول لأرقامه بشأن العجز في بيانه الأخير قبل أسابيع وهو ما لم يكن يفعله مسبقاً، بل كان يفصل استثمارات الطاقة عن بقية الاستثمارات. وتراجعت تحويلات المصريين العاملين في الخارج في الربع الأخير إلى 6.14 مليار دولار مقابل 7.1 مليار دولار للفترة ذاتها من العام المالي السابق. وسجل ميزان المدفوعات عجزاً بقيمة 2.06 مليار دولار في تلك الفترة مقابل فائض بقيمة 515.2 مليون دولار للفترة المقابلة قبل عام.
وربما يمكن تفهم أرقام الربع الأخير في ضوء وضع الاقتصاد العالمي الذي يصبح الاقتصاد المصري أكثر انكشافاً عليه مع التغييرات التي تحدث فيه. لكن إجمالاً، تظل النظرة المستقبلية جيدة في ضوء الأرقام الكلية لو أخذت على مدى السنوات الثلاث الأخيرة مثلاً.
فقد تراجع عجز الميزانية بشكل واضح جداً ويتوقع أن يصل العام المقبل إلى نسبة منطقية عند 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بعدما كان تفاقم العام المالي 2015-2016 ليصل إلى نسبة 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي. كذلك الحال بالنسبة لعجز الحساب الجاري المصري الذي وصل لمستوى خطر قبل نحو ثلاث سنوات ليصبح 19.8 مليار دولار، ولم يتجاوز العام الماضي 6 مليارات دولار. وستؤدي الإجراءات التقشفية التي تتخذها الحكومة إلى انخفاضه أكثر العام المقبل.
ورغم الزيادة في عائدات السياحة، التي قاربت 10 مليارات دولار (9.8 مليار دولار)، العام الماضي إلا أنها ما زالت لا تزيد عن نسبة 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ولا تقارن بتحويلات المصريين العاملين في الخارج التي زادت بنسبة نحو عشرين في المئة العام الماضي لتصل إلى 26.4 مليار دولار.
تبقى المعضلة الحقيقية في الاستثمار الأجنبي المباشر الذي لم يتجاوز 6.6 مليار دولار في النصف الأول من العام المالي الحالي، وهو المعدل ذاته تقريباً للعام الماضي مقارنة مع ارتفاعه بنسبة 11 في المئة في العام المالي 2016-2017.
وعلى مدى العامين الأخيرين، تراجع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر (محصلة الاستثمارات الداخلة للبلاد مقابل رؤوس الأموال الخارجة منها) بنسبة 35 في المئة تقريباً. أيضاً، يتركز الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع الطاقة. صحيح أن الحروب التجارية والحذر الشديد من جانب المستثمرين، أفراداً وشركات وصناديق، في العالم كان له تأثير سلبي في الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل عام إلا أن مصر كاقتصاد نام واعد بحاجة لحملة مكثفة لجذب الاستثمارات المباشرة في قطاعات عديدة. وهناك حاجة أيضاً لتغيير نظرة المستثمر لمصر، فبدلاً من أن يكون هدفه شراء أوراق مالية قصيرة الأجل لا بد من تشجيعه على شراء مصنع أو بناء مشروع طويل الأمد.
ربما كانت مشروعات البنية التحتية الهائلة التي تقوم بها مصر في السنوات الأخيرة عاملاً مهماً وضرورياً لجذب الاستثمار لكن الأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من ذلك، ليس فقط على صعيد التشريعات والإجراءات التي تسهل إقامة المشروعات و«نسف» القيود البيروقراطية التي ترعب المستثمرين. بل يحتاج الأمر في الواقع إلى إجراءات صادمة تتعلق بثقافة العاملين في كافة وزارات وأجهزة الدولة والإدارة المحلية التي لها علاقة بالاستثمار والمشروعات من سياحة إلى زراعة وصناعة وغيرها.
فمن غير المعقول أن تبذل الدولة كل هذه الجهود في مجال البنية التحتية والتشريعات الاقتصادية وتترك الأمر لهذا «الموظف» التقليدي الذي نعرفه جميعاً والقادر على «تطفيش» أي مستثمر وهو يظن أنه يحسن صنعاً. والأمثلة هنا لا تعد ولا تحصى، ليس أقلها تلك الموظفة الشهيرة في جمارك مطار القاهرة التي كان لها الفضل في منع أي إنتاج سينمائي أجنبي في مصر والتي استعاض عنها منتجو هوليوود وغيرها بتونس والمغرب مثلاً.


* كاتب صحفي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"