الاعتدال سبيل إلى التغيير

04:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد العزيز المقالح
ليس الغلو والتطرف في الدين هما ما تشكو منه البشرية في حاضرها الراهن، فهناك غلو وتطرف أشد يتجليان في المواقف السياسية، وهو ما دفع بكثير من المفكرين وقادة الرأي إلى اعتبار الغلو والتطرف الديني المرفوضين شرعاً وعقلاً انعكاساً للتطرف السياسي ولارتكاب القادة أخطاء فادحة كالاستئثار بالسلطة واستخدام القسوة المفرطة في محاربة كل أشكال المعارضة وإقصائها عن المشاركة في الحكم. وهي وجهة نظر تزكي رؤية الاعتدال في شؤون الدين والدنيا على السواء، والنظر إليه بوصفه السبيل الأمثل والأجدى في التغيير نحو الأفضل وبناء الشعوب، ولم يحدث - عبر التاريخ القديم والحديث - أن نجحت حركة متطرفة في تحقيق المطالب التي تريدها الشعوب. قد تنجح في الاستيلاء على السلطة، لكنها لم تنجح في شيء إيجابي مما تريد الشعوب في الوصول إليه سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
وتشير بعض الكتابات الأخيرة «لعدد من اليساريين العرب» إلى أن الاعتدال في المواقف لدى بعض الأنظمة العربية هو الذي حقق بعض الإنجازات المهمة على كثير من الصعد، وهي قناعة تستحق التقدير، وإن كانت شهادة متأخرة تشير إلى أهمية الأخذ بمبدأ الاعتدال، وتجنب كل ما من شأنه أن يعوق المسار الممكن في التغيير والخروج بالأقطار العربية من مأزق الصراع بين متطرفي اليسار واليمين، وتضييع الوقت في استخدام الحلول التي لا تتناسب مع الواقع العربي ومعطياته.

لقد انهارت المحاولات التي تقوم على نقل تجارب الآخرين، كما فشلت المحاولات التي ترى أن القوة وحدها تصنع الشعوب وتحولها إلى قوى ذات أهمية على المستوى الإقليمي والعالمي. ولا أخفي أن التجربة اليابانية قد شغلت اهتمامي منذ وقت ليس بالقصير، وبدأت أقرأ تاريخ هذا الشعب وتحولاته الدراماتيكية إلى أن وصلت إلى الاقتناع بأن المشاعر المتطرفة التي دفعته إلى محاولة الاستيلاء على الأراضي من جيرانه، وإشغالهم بالحروب المتتابعة وطموحه إلى أن يكون في صف ضد المحور والولايات المتحدة خاصة، قد جعلته يخسر كل شيء، ويعود إلى نفسه ليبني قوة اقتصادية مؤثرة أهم من قوة المدافع والطائرات وآلاف الجنود.
وما ينبغي أن يشغلنا جميعاً، ويفتح قلوبنا وعقولنا على مستجدات الحقائق هو الواقع العربي ومواجهة بعض أقطاره بين يمين ويسار، والأخذ نظرياً ببعض التجارب التي حققت لبعض الشعوب تقدماً ملحوظاً دون مراعاة لظروف تلك الشعوب وما وصل إليه أبناؤها من اقتناع بضرورة الاتفاق على منهج الاعتدال الذي لا يعتمد الشعارات، بل الحقائق والأفعال المجسدة في الحياة لا في الأوراق أو في وسائل الإعلام التي أخرجت بعض الأقطار العربية من العالم الثالث، وقفزت بها من خلال الكلمات الطنانة إلى العالم الأول، ثم يكتشف أبناؤها بعد أن تبرد حماسة الكلام أنها ما تزال تهنهن تحت وطأة الاحتياج إلى رغيف الخبز وما في مستواه من ضروريات الحياة. وهنا أتوقف لكي أشير إلى أن الاعتدال هو غير الوسطية التي نادى وينادي بها كثيرون، فالاعتدال يقوم على موقف منفتح تحدده المعطيات والاحتياجات والمتغيرات، في حين أن الوسطية موقف مسبق ومنهج ملزم لا يقبل التغيير والتعديل. ونحن في واقعنا العربي الراهن بحاجة إلى الاعتدال لتنتهي الخلافات التي صنعتها الالتزامات المسبقة وأحاطتها بهالات مقدسة لا تمس المقدس من قريب أو بعيد.
كان الوطن العربي في العقود الثلاثة الأخيرة يمر بأصعب المنعطفات، لكن أخطر هذه المنعطفات على الإطلاق هو المنعطف الراهن. حروب هنا وهناك يسقط خلالها آلاف القتلى من الأبرياء، تدمر قرى ومدناً بأكملها وينهار الاقتصاد، فضلاً عن تساقط أو تحول غير متوقع لصداقات تقليدية ارتبطت بها الأنظمة منذ وقت غير قصير، وشروخ تزداد اتساعاً وحدة داخل أكثر من قطر عربي، ومحاولات حثيثة داخلية وخارجية تعمل على هدم كل محاولة للتقارب، وتجاوز الخلافات والاحتقانات التي من شأنها أن تؤجج النيران وتعمل على تدمير كل محاولة جادة لرأب الصدع، والاتجاه نحو الاعتدال في مواجهة مشكلات الداخل والخارج بعيداً عن الاستفزاز وتغليب الرؤية الأحادية وما يتبعها من مواقف تخرج عن الإجماع وعدم الاستجابة للأخذ بالحل الأمثل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"