البريكست حركة ضد العولمة النيوليبرالية

05:10 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي
في الأصل، قامت فكرة توحيد أوروبا، لاسيما فرنسا وألمانيا، على قناعة بعض السياسيين الأوروبيين بأنها الحل الأفضل لمنع عودة الحروب التي عصفت بالقارة العجوز طوال قرون طويلة ممتدة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسير «المجموعة الاقتصادية الأوروبية» على عجلتين فرنسية وألمانية منذ التوقيع على معاهدة روما، في العام 1957، حتى نهاية الحرب الباردة. كذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تنطلق فكرة «الاتحاد الأوروبي» من فرنسا ثم ألمانيا لتكون معاهدة ماستريخت (فبراير 1992) المدماك الأول في بناء سوف يضم ثمانية وعشرين دولة تسعى للمزيد من الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والقانوني والسياسي في ما بينها. هذا الاتحاد كان التعبير الأبرز عن العولمة الاقتصادية الجديدة التي انطلقت متسارعة بعد انهيار جدار برلين، وانتهاء الانقسام الأيديولوجي العالمي و«انتصار» الليبرالية واقتصاد السوق. هذه العولمة أزالت المسافات والحدود بين الدول، وأقامت مساحات واسعة للتبادل الحر في العالم وباتت الموضوع الأساسي الذي يدرسه طلاب الجامعات ويكتب عنه الباحثون، وينقسم حوله المفكرون بين محبذ ومحذر من مفاعيله السلبية.
ومنذ نهاية الحرب الباردة ضربت العالم أزمات اقتصادية عدة. وعلى وقع هذه الأزمات والنمو المتصاعد في بعض الدول، والمتباطئ في بعضها الآخر، تبين أن المستفيدين من العولمة هم أنفسهم في كل مكان (الأثرياء الذين يزدادون ثراءً)، والمتضررون منها كذلك، أي الفقراء الذين يزدادون فقراً وتهميشاً.
التصويت البريطاني لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي هو تصويت ضد هذه العولمة النيوليبرالية بالتحديد. إنه تصويت اجتماعي - اقتصادي، قام به المهمشون والفقراء الذين يعيشون على هامش العولمة وسياسات بروكسل النيوليبرالية المفرطة. إنه تصويت يعكس هذا الشرخ الكبير بين مناطق الجنوب والشمال، لاسيما الشمال الشرقي، التي عانت غياب التصنيع من جهة، والمدن الكبرى الدولية مثل لندن وأوكسفورد وكامبريدج التي استفادت كثيراً من العولمة وتنظر بعين إيجابية إلى ظاهرة الهجرة والليبرالية الاقتصادية والتعددية - الثقافية، من جهة أخرى.
التأمل في الاستفتاء البريطاني يبرهن أننا كلما اقتربنا من مركز السيتي ومن وستمنستر كلما قوي البريكسن (التصويت لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي)، وكلما ابتعدنا عنهما قوي البريكست، فكل القسم الشرقي من لندن والضواحي العمالية الفقيرة اقترعت لمصلحة البريكست. هذه الشرائح الأكثر هشاشة من الناحية الاقتصادية، والأكثر قلقاً على مستقبلها اقترعت تعبيراً عن هواجسها، الأمر الذي لا يبرر وصفها بالعنصرية والإسلاموفوبية بحجة أنها ترفض ظاهرة الهجرة. فقد صوت كثير من المهاجرين والمسلمين لمصلحة البريكست، ليس رفضاً للهجرة وخوفاً من الإسلام، ولكن رفضاً للهجرة غير المنظمة وللفوضى الليبرالية وللمهاجرين الآتين من أوروبا نفسها، لاسيما من دولها الشرقية حيث العمالة الرخيصة المنافسة. المسألة اقتصادية وليست ثقافية أو دينية أو إثنية.
من الناحية السياسية، ليس من المعروف عن البريطانيين أنهم يكرهون الأوروبيين ويودون الانقطاع عن أصدقائهم وحلفائهم في العالم، أو يبحثون عن العزلة والتقوقع. ليس هذا هو المعنى الذي يحمله تصويتهم للخروج من الاتحاد الأوروبي. وشعار بوريس جونسون «ليكن مصيرنا بأيدينا نحن» هو دعوة للبريطانيين للإمساك بناصية قرارهم المتعلق بمصيرهم ومستقبلهم، واستعادته من ماكينة بروكسل وبيروقراطييها الذين يعيشون في أبراج عاجية بعيداً عن هموم وتطلعات وحاجات الشعوب الأوروبية.
لهذه الأسباب وغيرها، فإن شرائح واسعة من الشعوب الأوروبية تنظر إلى الاتحاد الأوروبي كبنية بيروقراطية قليلة الفاعلية وغير ذات جدوى، بل تمثل خطراً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً على بلدانهم. هذه الشرائح بدأت تميل أكثر فأكثر إلى الأحزاب والحركات المعارضة لليبرالية بروكسل المفرطة، وتقترع لمصلحتها في الانتخابات.
صحيح أنه في الحالة البريطانية يحظى البريكست بقاعدة تاريخية صلبة، ذلك أن بريطانيا لم تدخل إلا متأخرة (العام ١٩٧٣) في المجموعة الأوروبية ولم تنخرط بكليتيها في البناء الأوروبي الذي طالما تعاطت معه بحذر وبراغماتية. لكن خروجها اليوم يكسر أسطورة «المسار الذي لا رجعة فيه»، ذلك أنه منذ عقود طويلة تتردد أطروحة أن «معنى التاريخ» يسير في طريق لا عودة إلى الوراء فيه في اتجاه المزيد من أوروبا، وبأنه ما من خيار آخر سوى العودة إلى الفوضى والحروب.
الشعب البريطاني صوت ضد ليبرالية بروكسل المفرطة، لكن قادته، حتى أولئك الذين قادوا حملة البريكست، لا يزالون يصرون على البقاء في السوق الأوروبية المشتركة، أي في قلب العولمة. وهذا يعني أن التصويت نفسه (البريكست) حمل معنيين متناقضين ما بين الفقراء والأغنياء. المستفيدون من العولمة يريدون التخلص من أوروبا التي يشعرون بأنها تفرض عليهم شروطاً سياسية واجتماعية وقانونية تعيق بحثهم عن المزيد من الثراء والهيمنة، في حين أن الفقراء ومتوسطي الحال صوتوا لمصلحة استعادة قرارهم الوطني وضد العولمة النيوليبرالية المتوحشة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"