التدخلات العسكرية الفرنسية في إفريقيا

03:12 صباحا
قراءة 4 دقائق

في القرن التاسع عشر أدى الغزو الفرنسي لبعض أجزاء القارة الإفريقية إلى تدمير الامبراطوريات المحلية التي كانت قائمة والتي حلت محلها أجهزة الدولة البيروقراطية الكولونيالية التي مارست عملها عن طريق عملاء محليين، وزعماء كانتونات ينتمون إلى ارستقراطيات محلية قديمة . وعندما حصلت هذه المناطق على استقلالها في ستينات القرن الماضي (مرحلة نزع الاستعمار) فإنها استمرت في استعارة أنماط البيروقراطية الحكمية للمستعمر رغم تبني بعضها للنظام الاشتراكي، مثل مالي وغينيا وغانا . ولكن ضعف الأجهزة السياسية معطوفاً على مناورات المستعمرين القدامى قاد إلى سقوط الدول لمصلحة أنظمة عسكرية، على غرار موسى تراوري في مالي أو لانسانا كونتي في غينيا .
تعاملت فرنسا مع الانظمة الدكتاتورية الفاسدة، فمنحتها الشرعية، لكن فرانسوا ميتران، وبعد الفضائح المتكررة عن سلوك الفرنسيين في إفريقيا وبعد ضغوط تعرض لها لوقف هذا الوضع، ألقى خطاباً شهيراً في مدينة لابول الفرنسية، في 20 يونيو/ حزيران ،1990 وعد فيه بالقطيعة مع السياسة الإفريقية القديمة لبلاده وذلك في اتجاه دعم الديمقراطية ومكافحة الفساد . وكانت النتيجة أن سقطت أنظمة دكتاتورية كما في مالي التي أضحت، بعد السنغال، مثالاً يحتذى في الديمقراطية الافريقية .لكنها أنظمة ضعيفة جداً بدليل أنه في 22 مارس/آذار 2012 تمكن ضابط صغير في الجيش المالي هو النقيب آمادو هايا سانوغو من الانقلاب على الرئيس آمادو توماني توريه وطرده من السلطة . وكان على الجيش الفرنسي (عملية سيرفال في بداية العام الجاري) أن يسارع إلى التدخل كي ينقذ الدولة المالية من هجوم الإسلاميين الذين كادوا يصلوا إلى العاصمة نفسها .
حالة مالي هذه، مضافة إلى حالات أخرى عديدة في المربع الفرنسي في إفريقيا، تشي بغياب كامل للدولة المركزية . فعلاقات السلطة هناك تقوم على الزبائنية والقرابة العائلية والعشائرية . ولا معنى للكلام عن فساد في بلاد يعتبر فيها أن احتلال مناصب رفيعة هدفه أولاً وآخر إفادة الاقارب والأصدقاء من غنائم السلطة . وقد تبين أنه بقدر ما يكون النظام ديمقراطياً لامركزياً بقدر ما تزداد أهمية ظاهرة الزبائنية . وتحت حكم آمادو توريه الديمقراطي في مالي انتعشت ظواهر الشبكات التي يغذيها الريع النفطي والمناجمي، والمساعدات الدولية التي لا تذهب إلى مقاصدها، وتهريب المخدرات الخ .
ليس هناك من دولة ولا مجتمع مدني ولا أحزاب سياسية بالمعنى العصري، هذه حال مالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث السلطة المركزية في كينشاسا لا تمارس سيادتها إلا على جزء يسير من الأرض الوطنية، والصومال بالطبع، وشمالي نيجيريا والكاميرون من دون أن ننسى إفريقيا الوسطى . وهذه الحال تعطي ذريعة للتدخلات الفرنسية، السياسية والعسكرية، والتي أحصاها المراقبون بخمسين تدخلاً عسكرياً في الخمسين سنة الماضية . مع ملاحظة أن كل هذه التدخلات لم تغير في واقع الحال شيئاً، فلا تزال الدولة هناك ضعيفة ولاتزال العلاقات الزبائنية والحاجة إلى تدخل المستعمر القديم قائمة لحماية الأمن والاستقرار أو النظام من هجوم وشيك عليه من معارضة مسلحة أو إسلاميين متطرفين . مئة وخمسون عاماً من الهيمنة العسكرية الفرنسية والنتيجة نفسها: استغلال فاضح للموارد الأولية الإفريقية والابقاء على دكتاتوريات أو ديمقراطيات ضعيفة تابعة للمستعمر السابق وتسعى للاستحواذ على رضاه .
ويلاحظ المراقبون أن فرنسا هي البلد الوحيد، من المستعمرين القدامى، الذي لايزال محافظاً على قواعده العسكرية في إفريقيا، وقد ذهبت بمفردها إلى ساحل العاج في العام 2012 لتخلع الرئيس غباغبو وتلقي القبض عليه، ثم إلى مالي في العام الجاري (عملية سيرفال) ثم إفريقيا الوسطى (عملية سانغاري) من دون مشاركة دولة أوروبية واحدة أو دولة إفريقية كبرى واحدة
في ديسمبر/ كانون الأول 2012 طلب الرئيس المعزول فرانسوا بوزيزيه مساعدة واشنطن وباريس لوقف المتمردين على حكمه . لكن العاصمتين المذكورتين رفضتا التدخل بذريعة الحاجة إلى تفويض من الامم المتحدة . وفي 24 مارس/ آذار الماضي سيطرت ميليشيات ائتلاف "سيليكا" على الحكم وبدأت بأعمال سلب ونهب للممتلكات في بانغي بعد فرار الرئيس بوزيزيه . وفي 5 ديسمبر/ كانون الأول الجاري استحصلت باريس على قرار من مجلس الأمن يجيز للقوة الإفريقية الموجودة في إفريقيا الوسطى (ميسكا) الانتشار في افريقيا الوسطى لمدة ستة أشهر بغية حماية المدنيين وإعادة الأمن والاستقرار إلى البلد كما أجازت للقوة الفرنسية الموجودة هناك بدعم "ميسيكا" . ثم أعلن وزير الدفاع الفرنسي إرسال ألف جندي فرنسي إلى إفريقيا الوسطى للانضمام إلى ستمئة رجل موجودين هناك . وخلال القمة الفرنسية-الإفريقية للأمن والسلام في إفريقيا المنعقدة في باريس في 5-6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري أعلن الرئيس هولاند عن عملية "سانغاري" (فراشة افريقية حمراء) في إفريقيا الوسطى . وبسرعة البرق دخلت قوات فرنسية إلى العاصمة بانغي وأخرى من الكاميرون غرباً إلى بوار وأخرى إلى بوسانغوا على بعد 300 كلم شمالي بانغي . نجحت القوات الفرنسية بسهولة فائقة في السيطرة على البلد وهي تنوي تغيير الرئيس الذي قال عنه هولاند إنه "لا يفعل شيئاً فليرحل" .
بالطبع تدعي فرنسا بأنها تقوم بعمل خيري في إفريقيا الوسطى الغنية بالنفط واليورانيوم والخشب والماس . واللافت أنه في الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الفرنسية هناك ذكر واضح للمصالح الاقتصادية في إفريقيا الوسطى، حيث تعمل شركات فرنسية كبرى مثل "توتال" و"بولوريه" و"كاستل" و"اير فرانس" و"سفاو" و"فرانس تيليكوم" وغيرها . بالطبع فرنسا، كغيرها من الدول، ليست جمعية خيرية . مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية تعلو على كل شيء، وهي بصدد السيطرة العسكرية الناجزة على "المربع الفرنسي" بعد ساحل العاج ومالي واليوم إفريقيا الوسطى، والذريعة هي نفسها على الدوام إعادة الأمن والاستقرار عقب هجوم ميليشيات مسلحة أو انقلاب عسكري لم ينسق سلفاً مع باريس .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"