التعليم شرط ضروري لكنه غير كاف

01:47 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. عبد العظيم محمود حنفي

المرجح أن يصبح التعليم عاملاً أكثر أهمية بالنسبة إلى النمو في المستقبل، خاصة في اقتصادات القمة
من الواضح للجميع - وربما لغير الاقتصاديين على وجه الخصوص - أنه كلما ازداد التعليم في المجتمع، أو بالأحرى كلما زادت مهارات قوة العمل، سار النمو على نحو أسرع. ففي نموذج نمو سولو Solow- على سبيل المثال - تنعكس المهارات المضافة في المجتمع ضمنياً، في عمالة إضافية. فالفني عالي التدريب - على سبيل المثال - يساوي عاملين غير مدربين. وبالتالي تنمو الاقتصادات أسرع عندما يكتسب العاملون فيها مهارات أكثر. وكانت الدراسات الاقتصادية المبكرة للدور الاقتصادي الذي يلعبه التعليم تتجه إلى التقييم الكمي للمعدل المالي للعائد الذي يستطيع الفرد تحقيقه بقضاء فترة إضافية في المدرسة. وكان التعليم يعرف في الأساس باعتباره «مدخلاً»، أي السنوات التي أمضاها المرء في المدرسة، وليس باعتباره «مخرجاً»، أو كمّاً معرفياً حصل عليه العامل بالفعل. وأدى التقدم التكنولوجي إلى ازدياد الطلب على العمالة الماهرة. وذهب اقتصاديون آخرون إلى أن التعليم يعود على المجتمع بفوائد تتخطى ما يستطيع الفرد المتعلم الحصول عليه لنفسه ؛ فالمجتمع الأكثر تعلماً أكبر قدرة على الابتكار، وبالتالي تحسين النمو.
على أن هناك مشكلة واحدة تعترض هذا التركيز على التعليم، بوصفه مفسراً رئيسياً لاختلاف معدلات النمو باختلاف البلدان، فعندما حاول العديد من الاقتصاديين أن يتوصلوا إلى علاقة إحصائية بين عدد سنوات التعليم والنمو الاقتصادي (مع تثبيت العوامل الأخرى المؤثرة في النمو) في مختلف البلدان، لم يستطيعوا التوصل إلى تلك العلاقة. بيد أنه هناك سبباً قوياً لهذه الضبابية في الصورة، فهناك بلدان ترتفع فيها مستويات التعليم، ومع ذلك فأداؤها الاقتصادي بائس، فبلدان ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي السابق كانت تباهي بمستويات التعليم الابتدائي والثانوي الممتازة لمعظم سكانها. ولكن تبين مع انهيار سور برلين أن تلك الاقتصادات كانت تمر في ظروف اقتصادية افقر بكثير مما كان يعتقده المحللون الغربيون، حيث تبين أن تلك الاقتصادات الاشتراكية أهدرت الموارد التي ضختها في تعليم شعوبها باستثناء سفن الفضاء، وبعض التطبيقات العسكرية للتقدم العلمي الذي وصل فيها الاتحاد السوفيتي الى مرتبة عالمية.
وبينت دراسة متعمقة للنمو الاقتصادي أن البلدان الفقيرة- ورغم استثمارها الواسع في التعليم ما بين عامي 1960 و2000 - انخفض متوسط معدلات النمو فيها، خلال الفترة نفسها، بشكل منتظم. وقد تكون معدلات التعليم تحسنت بالفعل في تلك البلدان، لكن الفساد وعوامل أخرى، أتت على أي تأثير يمكن أن يحدثه تحسين التعليم على النمو.
كل ذلك يثبت أن التعليم شرط ضروري، ولكنه غير كاف وحده للتقدم الاقتصادي. فيجب أن تكون هناك المؤسسات المناسبة حتى يلعب التعليم دوره السحري، تماماً كما أن الطفل العبقري لن يكبر ليكون راشداً عبقرياً من دون تغذية سليمة، وتدريب مناسب. إلى جانب أن التعليم وإن كان قد دفع النمو في بعض بقاع العالم، فإن ذلك لا يجعله عاملاً مؤثراً بشكل خاص في الرأسمالية فحسب. فقد أفادت الاقتصادات التي تقودها الدولة أيضاً - وبشكل كبير - من وجود قوة عمل أفضل تعليماً.
تتبقى ملاحظتان أخريان، لو افترضنا أن التعليم، في ظل ظروف مؤسسية مناسبة، يعد عاملاً مهماً لنمو الاقتصاد، فهناك سؤال يطرح نفسه، وهو أيهما أكبر عائداً على الاقتصاد: تركيز الاستثمار التعليمي على النخبة، أم انتهاج نهج أكثر شمولا لأبناء الشعب بشكل عام. انتهجت الهند الخيار الأول، بينما اتبعت بلدان أخرى في جنوب شرق آسيا النهج الثاني. ونتج عن التجربة الهندية نجاحها الكبير والمتزايد في الأعمال المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات ؛ بيد أن هذا القطاع لا يمثل سوى 2 في المائة من إنتاج قوة العمل في البلاد برغم أن البعض تنبأ بأن يصل إلى 7 في المئة. ولا يزال فقر التعليم سمة مئات الملايين من الهنود. وفي المقابل نجد
كوريا وتايوان- على سبيل المثال - في جنوب شرق آسيا ركزتا بشكل أكبر على توفير تعليم ابتدائي عام شامل عندما كانتا في المرحلة نفسها من التنمية الاقتصادية. وقد سلحت تلك الاستراتيجية شرائح أكبر من قوة العمل بالمهارات اللازمة للعمل في المرافق الصناعية كثيفة العمالة، ما وصل بها بعد عقود إلى قمة الإتقان، بل وكان أساساً للابتكار. ومن الواضح أن استراتيجية التعليم الشامل للجميع أكثر عدالة من نهج استهداف شرائح معينة، كما فعلت الهند. بيد أن السؤال المتعلق بما إذا كان نهج استهداف شرائح معينة تدر مكاسب أكبر على الاقتصاد الوطني يظل مفتوحاً لبعض الوقت وفق بعض الاقتصاديين.
الملاحظة الثانية، هي أنه أياً كان ما نعتقده في ما يتعلق بمساهمة التعليم في النمو الاقتصادي في ظل نظام رأسمالي حتى الآن، فالمرجح أن يصبح التعليم عاملاً أكثر أهمية بالنسبة للنمو في المستقبل، خاصة في اقتصادات القمة، فحتى سبعينات القرن الماضي كان المخترع الذي يعمل في مرآب غير الحاصل على تعليم متقدم قادراً على التوصل إلى اختراع مفيد تجارياً، وكان بعض تلك الاختراعات أصيلاً بالفعل، فأعظم مخترع أمريكي على مر العصور، توماس اديسون، لم يكمل دراسته الثانوية. وفي السبعينات استطاع خريجا مدرسة ثانوية، هما ستيفن جوبز، وستيفن وزنياك، أن يصنعا كمبيوتر شخصياً في مرآب.
على أن هناك ما يدفع إلى الاعتقاد بأن تلك الأيام قد ولت، فمؤسسو بعض الشركات الرائدة في تكنولوجيا الإنترنت - أمازون، وإي باي، وجوجل، وياهو- كلهم من خريجي الجامعات، وبعضهم حصل على دراسات عليا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"