التهديد التركي للأمن القومي العربي

03:28 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد نورالدين

خرجت تركيا في ظل سلطة حزب العدالة والتنمية إلى العالم العربي بوجهين: الأول قبل عام 2011 أي عام ما سمي ب «الربيع العربي». والثاني ما بعد هذا العام، وهو مستمر حتى الآن.
في الوجه الأول كانت القوة الناعمة هي الصفة الطاغية. عمل الأتراك على إبراز الوجه الإيجابي بدءاً بتصدير المسلسلات التي تعكس طبيعة جميلة وأماكن تاريخية ومنازل فخمة وحكايات عشق وغرام. وامتطى الأتراك ذلك بلهجة سورية كانت رمزاً لنجاحات الدراما السورية في العالم العربي، والتي بدأت مع مسلسل «باب الحارة» الشهير. ومن ثم كانت عناوين جاذبة في السياسة الخارجية: صفر مشكلات، إلغاء الحواجز الجمركية، إلغاء الفيزا للداخلين، ولقاءات سياسية اتخذت الطابع الشخصي، وتبادل الهدايا ورحلات الاستجمام.. والقائمة تطول.
وما هي إلا سنوات قليلة حتى انقلب المشهد رأساً على عقب.
تركيا، التي قُدّم لها الوطن العربي على صينية من ذهب وليس من فضة، كانت تخبئ ما لم يكن في الحسبان. وعلى قاعدة «الصعود الصاروخي يتحول إلى هبوط صاروخي مضاد»، انحدرت العلاقات العربية - التركية في ليلة ظلماء من علاقات عسل إلى علاقات فيها كل شيء إلا العسل، وفي كل القطاعات. رمت تركيا قوتها الناعمة جانباً، واستلت من وراء الظهر قوتها الخشنة جداً.
تدخلت تركيا في الشؤون الداخلية لكل الدول العربية، مستندة إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس وليبيا والمغرب والأردن وسوريا وبعض الدول الخليجية. ونجحت في البعض وفشلت في أخرى. وحيث فشلت كان التدخل العسكري المباشر أو عبر تسليح مجموعات وتنظيمات مسلحة هو الوسيلة لمحاولة تحقيق الأهداف التركية.
فكانت سوريا النموذج الأبرز لذلك. وبعد أن استنفدت توظيف الجماعات المسلحة نفذت بنفسها ثلاث عمليات عسكرية كبرى هي «درع الفرات»، و«غصن الزيتون»، و«نبع السلام»، فضلاً عن وجودها المباشر في منطقة إدلب، واحتلت معظم الشريط الحدودي السوري مع تركيا. ومن ثم توالت عملياتها العسكرية في العراق، وآخرها «عملية المخلب». وإذا كان الجوار الجغرافي عاملاً دافعاً للجيش التركي للتدخل القوي، فإن البعد الجغرافي لم يقف عقبة أمام التدخلات التركية. فكانت إقامة قاعدة عسكرية في الصومال أولها، تلتها القاعدة الكبرى في قطر.
ومن ثم كان السعي لتحويل جزيرة سواكن السودانية قاعدة عسكرية تركية قبل أن يطاح بالرئيس عمر البشير.
لكن ما جرى في الأشهر الأخيرة كان لافتاً، إذ اندفعت تركيا بصورة قوية للتدخل في بلد عربي آخر هو ليبيا، حيث تحولت منطقة مصراتة، منذ خلع معمر القذافي إلى محمية تركية. ومن ثم جاء توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة فايز السراج، ليعطي تركيا حضوراً خارجياً متجدداً.
لكن هذا الحضور شهد اندفاعة خطيرة مع توقيع اتفاق للتعاون العسكري بين الطرفين. بل إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن أن حكومة السراج طلبت دعماً عسكرياً تركياً. وتركيا لم تكن متفرجة قبل ذلك، بل كانت ترسل السلاح والمقاتلين الأجانب على قدم وساق، لكن الجديد أن أردوغان وعد بأنه إذا تطلب الأمر، فسترسل تركيا جنوداً إلى هناك. وهذا تطور خطير بلا شك، إذ سيجعل ليبيا من جديد مسرحاً لاحتلالات أجنبية بدأت مع حلف شمال الأطلسي، وتستمر اليوم مع تركيا.
والخطير أن مثل هذا التدخل يأتي لمواجهة قوى عربية تدعم جبهة اللواء خليفة حفتر. أي أن تركيا تدعم جهة عربية ضد جهة عربية أخرى، لتؤجج الشرخ العربي. ولعل المسؤولية الأولى هنا تقع على عاتق جامعة الدول العربية التي يجب أن تضطلع بدور فاعل وحاسم لمواجهة الوضع في ليبيا وتضع خطة استراتيجية لمواجهة التهديد التركي الخطير للأمن القومي العربي قبل فوات الأوان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"