الدولة والدين في تركيا

00:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد نورالدين

في الخامس والسادس عشر من حزيران/ يونيو الفائت انعقد في مقاطعة نيدوالدن في سويسرا مؤتمر شاركت فيه شخصيات عالمية مختلفة تحت عنوان «قمة من أجل السلام في أوكرانيا». ولم تشارك الصين في المؤتمر احتجاجاً على عدم دعوة روسيا أصلاً.

شاركت تركيا بوفد ترأّسه وزير الخارجية حاقان فيدان الذي ألقى كلمة، والتقى العديد من الزعماء والمسؤولين المشاركين. لكن ما لفت الانتباه في الوقت نفسه مشاركة بطريرك تركيا للروم الأورثوذكس ديميتري بارتولوميوس تحت صفة «بطريرك قنسطنطينوبوليس المسكوني» أي «بطريرك القسطنطينية ذو السيادة العالمية». وهذا ما أثار نقاشات في الداخل التركي باعتبار أن الاسم الرسمي لموقع البطريرك هو «بطريرك كنيسة فنار للروم». وهذا يفيد بأن بارتولوميوس هو بطريرك لكنيسة الروم الواقعة في حي فنار باسطنبول. وهذا يعني أنه بطريرك للكنيسة الواقعة في نطاق قائمقامية «فاتح» ويخضع لها وليس بطريركاً للقسطنطينية التي أصبح اسمها اسطنبول. كما إنه لا يتمتع، وفقاً للقانون التركي، بصفة مسكونية أي عالمية، على غرار الفاتيكان مثلاً. لكن البارز هذه المرة أن الجانب التركي الرسمي المشارك في المؤتمر لم يبد في سابقة، أي ردة فعل رافضة لمشاركة البطريرك بهذه الصفة.

ليست المرة الأولى التي تثار فيها هذه المسألة في تركيا، بل هو تاريخ مزمن من العلاقة بين السلطة في تركيا والبطريركية الأرثوذكسية. فاعتماد العلمنة وفصل الدين عن الدولة، أخضع البطريركية في اسطنبول لأحكام القانون الداخلي ونزع عنها صفة العالمية، وأخضعها لقانون البلديات المحلي بعدما كانت البطريركية هناك مرجع الأرثوذكسية في الدولة البيزنطية. هذا فتح مشكلة بين الدولة والكنيسة لم تجد حلاً لها بعد. فالبطريركية تتهم السلطة بأنها تريد تقزيم المرجعية الأورثوذكسية فيما ترفض أنقرة أن تكون أي مؤسسة تركية لها سلطات تتجاوز حدود تركيا أو لها علاقات مستقلة مع أي مؤسسة خارج تركيا.

لكن التوقيع على البيان الختامي شهد مفارقة مثيرة. وهو أنه في حين امتنعت السعودية والإمارات وليبيا والهند وجنوب إفريقيا وتايلاند وإندونيسيا والمكسيك والبرازيل عن التوقيع على البيان، كانت تركيا توقع، كدولة، باسم وزير خارجيتها، وفي الوقت نفسه كان بارتولوميوس يوقّع عليه بصفة «مراقب». ووصفت صحيفة «يني تشاغ» القومية التركية إن ما جرى فضيحة غير مسبوقة.

يقول السفير المتقاعد طوغاي اولوتشيفيك إن مشاركة بارتولوميوس بالمؤتمر بصفة مستقلة عن تركيا وضع لا يمكن القبول به. ويقول إن بطريركية فنار مؤسسة دينية تركية والبطريرك هو مواطن تركي، ويتبع القانون التركي ولا يمكن له المشاركة من دون أخذ إذن من وزارة الخارجية حتى لو كان مؤتمراً دينياً فكيف بأنه مؤتمر سياسي حول أوكرانيا؟ فضلاً عن أن البطريرك التقى على هامش المؤتمر برئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس.

وقال أولوتشيفيك إن اتفاقية لوزان جعلت من البطريركية مؤسسة دينية لا تتعاطى بالسياسة وتهتم بأمور السكان الروم في اسطنبول وجزيرتي بوزجا أضه وغوكتشيه أضه. وقال اولوتشيفيك إن مشاركة البطريرك بصفة مستقلة هو فخ ينصب لتركيا على الصعيد الخارجي، وكان على تركيا اتخاذ خطوة تناسب حجم القضية وهو الانسحاب من المؤتمر. وقال إن هذا مقلق لتركيا خصوصاً أن البطريركية تذكر في المؤتمر بالعبارات نفسها المستخدمة بالنسبة إلى الفاتيكان ذات الصفة العالمية والمستقلة. وكان على البطريرك أن يشارك في المؤتمر بصفته مجرد عضو في الوفد التركي برئاسة ديبلوماسي.

ويكتب محمد علي غولر في صحيفة «جمهوريات» إن مسألة البطريركية لم تكن يوماً دينية بل سياسية. وقال إنه منذ القرن التاسع عشر وانجلترا وفرنسا وروسيا تستخدم البطريركية أداة في سياساتها الإمبريالية. وقال إن البطريركية قامت بدور مهم خلال حرب التحرير الوطنية بين 1919-1922 بتسليح المجموعات اليونانية ضد أتاتورك. لكن أتاتورك بعد اعتماد العلمنة أخرج البطريركية من صفتها ودورها وأنزلها لمرتبة المؤسسة الدينية التابعة لقائمقامية الفاتح.

وقال غولر إن الأزمة في أوكرانيا كانت بداية لمرحلة جديدة من العلاقة بين أمريكا وبطريركية إسطنبول، إذ انفصلت الكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية وأعلنت استقلالها في العام 2018. والأهم أن كنيسة إسطنبول قد دعمت هذه الاستقلالية. وقال إن توقيع البطريرك بارتولوميوس على إعلان مؤتمر السلام في سويسرا هو محطة أخرى من استخدام واشنطن للكنيسة التركية ضد روسيا.

ويرى الجنرال المتقاعد نعيم بابور أوغلو أن ما حدث في المؤتمر هو انتصار لليونان لكن عدم اعتراض تركيا على ذلك يعتبر تراجعاً استراتيجياً تركيّاً. وتساءل أوغلو:«كيف يمكن لتركيا أن ترتكب هذا الخطأ؟». وأضاف إن البطريرك بارتولوميوس كان مدعواً بصفة «مسكونية» وألقى خطاباً ووقّع على البيان الختامي كما لو أنه رئيس دولة. وهذا انتصار لليونان. وقال إن البطريرك لا يمكن أن يستخدم صفة ليست له وغير معترف بها. السيادة وفق القوانين التركية ومعاهدة لوزان هي للجمهورية التركية. وقال «إن توقيع فيدان على البيان نفسه الذي وقّع عليه بارتولوميوس مخالف للقوانين التركية.

فهل«حادثة» سويسرا مؤشر على أن هناك مرحلة جديدة من«انفتاح» تركي على البطريركية والمسيحيين في أكثر من مجال، أم أنها مجرد خطوة تكتيكية ليس لها ما بعدها وأكبر من أن تهضمها «الدولة العميقة»؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr39vtkb

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"