الثورات العربية تطفئ شمعتها الثالثة

03:20 صباحا
قراءة 4 دقائق
من الصعوبة بمكان إجراء جردة حساب نهائية للثورات الشعبية العربية في عيدها الثالث وهي لا تزال تعيش حالة تمخض لا ندري بعد كيف ومتى وعما ستنجلي . فإذا كانت الأنظمة الاستبدادية، في تونس ومصر وليبيا، قد سقطت بسرعة قياسية أمام الزحف الشعبي، إلا أن الأنظمة الجديدة لا تزال قيد التشكل والولادة القيصرية المتعسرة . في مصر قامت ثورة يونيو لتصحيح مسار ثورة يناير، لكن البلاد وقعت ضحية إرهاب لم تعرفه في تاريخها الحديث، إرهاب يستهدف الجيش الذي طالما شكل صمام الأمان في زمن المحن . أما ليبيا فصارت ساحة لتصفية حسابات بين قبائل وميليشيات في غياب الحد الأدنى من مظاهر الدولة . رئيس وزراء يخطف وسفراء يغتالون وضباط شرطة كبار يقتلون . من جهته لا يزال اليمن يتخبط في حبائل الانتقال السياسي بين حرب على القاعدة وحرب مع الحوثيين . أما عن سوريا فحدث ولا حرج، الضحايا صاروا يعدون بمئات الآلاف، والدمار لا يوفر مدينة ولا قرية ولا شارعاً . وجود البلد نفسه أضحى مهدداً في حين أن النظام ومتطرفين ظلاميين يشتركون في تدمير الحجر والبشر والشجر .
إنه شتاء أو "خريف الإسلاميين" كما أطلق البعض على "الربيع العربي" الذي ظن كثيرون أنه تحول ديمقراطي طال انتظاره، بعد عشرين عاماً ونيف على التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية والوسطى .
وبالمناسبة، ففي أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً تنوعت الحال بين دول حدث فيها التحول الديمقراطي من دون نقطة دم واحدة كما في تشيكوسلوفاكيا التي انقسمت لاحقاً إلى دولتين، تشيكيا وسلوفاكيا، وبالتراضي من دون عنف ودول البلطيق وسلوفينيا وبولونيا، وأخرى عرفت بعض المعاناة والعودة المؤقتة لحكومات استبدادية عبر صناديق الاقتراع، كما في هنغاريا ورومانيا وبلغاريا، وأخرى غرقت في الحرب الأهلية مثل صربيا والبوسنة وكوسوفو، في حين بقيت أخرى إلى اليوم ترزح تحت دكتاتوريات يقودها شيوعيون سابقون أو ورثتهم . وهذه حال بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق .
والدروس المستقاة من أوروبا الشرقية التي يمكن الاستفادة منها عربياً، كثيرة . منها على سبيل المثال أنه لا يكفي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع للعبور إلى الديمقراطية . ينبغي الشروع في بناء مجتمع مدني وأحزاب سياسية وصحافة حرة وجماعات ضاغطة وثقافة قبول بالآخر المختلف دينياً أو عرقياً أو إيديولوجياً . . الخ . كما أن وجود دول مستقرة وديمقراطية مجاورة يعتبر عنصراً مساعداً أساسياً على نجاح التحول الديمقراطي . في حالة أوروبا الشرقية قام الاتحاد الأوروبي بجهود جبارة لمساعدتها على العبور من الاستبداد إلى الديمقراطية، ثم على ترسيخ هذا التحول الذي بدا هشاً ضعيفاً في بعض الدول التي كادت تعود إلى الاستبداد القديم . فعلى سبيل المثال لا الحصر سارع الاتحاد في غضون أسابيع قليلة في خريف العام ،1998 إلى إنشاء البنك الأوروبي للتنمية (بيرد) بغرض مساعدة أوروبا الشرقية التي راحت دولها لاحقاً تنضم الواحدة بعد الأخرى إلى هذا الاتحاد .
الولايات المتحدة بدورها استثمرت الكثير من الجهود لمساعدة أوروبا الشرقية على التحول الديمقراطي وعلى ترسيخه لاحقاً قبل أن تفتح أمامها أبواب حلف الأطلسي، لكنها لم تفعل شيئاً حيال التحول الديمقراطي العربي . بل إن سلوكها قبله وخلاله لم يصب البتة في مصلحة مثل هذا التحول . الاتحاد الأوروبي، الجار القريب من العرب، كان موقفه مختلفاً، إذ شجع على مثل هذا التحول بعد تردد في بادئ الأمر . لكنه لم يلق من حليفه الأمريكي المؤازرة والتشجيع والتنسيق لمساعدة الثورات العربية على النجاح، فكانت سياساته حيالها مختلفة من حالة إلى حالة وتعاني تخبطاً وتردداً وضعفاً . ينبغي ألا ننسى وطأة العامل "الإسرائيلي" على السياسات الأمريكية وتأثيره السلبي في تطور ديمقراطي عربي ليس في مصلحته على الإطلاق .
بيد أن الإنصاف والموضوعية يقتضيان القول: إن المشكلة تكمن أيضاً في الجانب العربي الذي يتخبط فيه التحول بين إسلام سياسي معتدل وآخر متطرف وعلمانية تخجل من الكشف عن اسمها ومعارضات منها من هي أكثر استبداداً من الأنظمة التي انقلبت عليها .
بعد ثلاث سنوات على الثورات العربية لا يمكن القول: إن ما يعيشه المشهد السياسي في دولها والمنطقة عموماً دليل على فشلها . فتاريخ الثورات يعلمنا أنها لا بد أن تمر في مرحلة انتقالية يشوبها الكثير من التخبط والعودة إلى الوراء والثورات المضادة وغيرها . الثورة الفرنسية نفسها لم تتحقق أهدافها ومبادئها قبل قرن كامل من الزمن . واليوم بفضل التقدم التكنولوجي الهائل في وسائل الإعلام والاتصال لن نضطر إلى الانتظار قرناً كاملاً كي تتحقق أهداف الثورات العربية، فمصر تتقدم في خريطة الطريق التي وضعتها ثورة يونيو، ولو بشكل متعثر، وتونس قدمت نموذجاً رائعاً عن تحول سلمي بعد أن انطلقت منها شرارة الثورات العربية . ونجاح التحول في تونس ثم مصر لا بد من أن ينعكس إيجاباً على الجارة الليبية .
لسنا بصدد خريف أو شتاء أو ما شابه، بل سنوات ثلاث من مرحلة انتقالية، قد تطول أو تقصر، لا بد منها للعبور من أنفاق الاستبداد إلى رحاب الحرية الآتية ولو بعد حين .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"