الجغرافيا السياسية للشقاء في قوس الأزمة

03:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

إن تمركز مظاهر العنف والفقر والتعاسة والشقاء في دول ومناطق بعينها من الكرة الأرضية، يدفع الكثير من المراقبين والمختصين في العلاقات الدولية إلى الحديث عن مشهد جيوسياسي للشقاء والمصائب التي تعايشها شعوب فقيرة أنهكتها الحروب الأهلية ودمرت حواضرها، وفكّكت نسيجها المجتمعي، وأضحت تشكل عنواناً للبؤس ومنبعاً لأحزان البشرية في عصر ثورة التكنولوجيا الرقمية والمعلوماتية.
وما يثير الانتباه والاستغراب في كل هذه الجغرافيا السياسية للشقاء، هو تمركزها بشكل غير طبيعي في محيط ما يسمى بقوس الأزمة، الذي يمتد من منطقة الساحل بإفريقيا غرباً إلى أفغانستان وباكستان شرقاً مروراً بمناطق شاسعة من البلدان، التي تعاني ضعفاً مزمناً لمؤسسات الدولة مع وجود مناطق شاسعة من ترابها خارج سيطرة السلطة المركزية.
ويمكن القول، إن مأساة شعوب قوس الأزمة وكل الشعوب التي تعاني الصراعات، تكمن في أن الحروب تغذي الحروب، والمواجهة تفتح الأبواب على مصراعيها لاندلاع مواجهات أخرى أكثر شراسة وتدميراً، وعندما يتحول الفساد إلى ممارسة مجتمعية رائجة، فإننا نكون أمام وضعيات متناقضة لشعوب تعاني الفقر والفاقة في دول تنام على أنهار من الخيرات والثروات، لأن نخبها عجزت عن تحقيق الحد الأدنى من التوافق الذي يسمح للجميع بالعيش في كنف الوئام والسلم المجتمعي اللذين يسمحان بحل الأزمات الشائكة بعيداً عن لغة العنف والسلاح.
ينطلق مسلسل الشقاء في معظم الحالات من إفريقيا قبل أن تصل تداعياته المأساوية إلى أقاصي آسيا بالقرب من شبه الجزيرة الهندية؛ حيث يمكننا أن نلاحظ أن شعوب الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، ما زالت تشهد العديد من المآسي الإنسانية نتيجة الحروب الأهلية التي عاشتها دول مثل الكونجو الديمقراطية، ورواندا التي عرفت أخطر وأبشع إبادة جماعية في التاريخ المعاصر.
ويعيش جنوب السودان الآن، فصلاً جديداً من مآسي القارة السمراء، منذ اندلاع الحرب الأهلية في 15 ديسمبر/كانون الأول من سنة 2013 بسبب الصراع على السلطة والنفوذ ما بين الرئيس سيلفا كير ونائبه ريك ماشار، وذلك بالرغم من أن هذا البلد لم ينفصل عن السودان إلا في سنة 2011، وتشير التقارير الدولية إلى أن حصيلة المواجهات كانت جد ثقيلة؛ حيث وصل عدد الضحايا إلى أكثر من 400 ألف قتيل، إضافة إلى أكثر من مليونين من اللاجئين ومليونين من المبعدين عن مدنهم وقراهم داخل تراب هذه الجمهورية الوليدة.
ونلاحظ مع تقدمنا قليلاً في الجغرافيا السياسية للشقاء باتجاه منطقة الشرق الأوسط، أن المأساة بدأت بشكل واسع مع الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 الذي أسهم في إضعاف الدول الوطنية في المنطقة، وأدى بشكل تدريجي إلى تفجر الأوضاع في كل من سوريا واليمن بمباركة ومشاركة من دول إقليمية في مقدمها «إسرائيل» وإيران وتركيا التي تسعى إلى استعادة أمجاد السلطنة العثمانية على حساب أحلام وتطلعات شعوب المنطقة. وقد وصل منسوب الشقاء في الشرق الأوسط إلى مستويات قياسية مع الإعلان عن تأسيس تنظيم «داعش» الإرهابي الذي تفنن بشكل لم يسبق له مثيل في العمل على جعل العباد على اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم أكثر بؤساً وتعاسة من خلال دفع بعض الأفراد إلى كره الحياة وإلى تقديس الموت والدمار.
أما في وسط وشرق آسيا، فإن الوضع مازال معقداً، وبخاصة في أفغانستان التي شهدت سلسلة من الحروب الأهلية المتواصلة ما بين مختلف الطوائف منذ الثمانينات من القرن الماضي بعد التدخل السوفييتي في هذا البلد الذي فجر موجة غير مسبوقة من العنف، وأدى بشكل تدريجي إلى انتشار ثقافة الموت واستمراء القتل تحت عناوين دينية فضفاضة، أرادت أن تخفي تركيبة قبلية وعرقية متشابكة قائمة على الإقصاء ورفض الآخر المختلف؛ كما تعيش بورما (ميانمار) في السياق نفسه، مشاهد إبادة جماعية غير مسبوقة للمسلمين من طرف مجموعات بوذية متطرفة بمباركة من الحكومة المركزية، بهدف إجراء تطهير عرقي في المنطقة المتاخمة للحدود مع دولة بنجلادش.
نستطيع أن نزعم في الأخير، أن الجغرافيا السياسية للشقاء لم تعد الآن حكراً على منطقة قوس الأزمة، لكنها باتت تتمدد بخطى واثقة نحو الكثير من المناطق التي ما زالت تبدو آمنة ومستقرة، وهناك فضلاً عن كل ذلك الكثير من جيوب الفتنة والعنف التي تنتشر في مناطق قريبة من قوس الأزمة غير بعيد عن دول الشمال؛ حيث تشهد الكرة الأرضية، تزايداً كبيراً في أعداد الدول المرشحة للفشل بما في ذلك داخل تراب القارة العجوز، نتيجة للأزمات الاقتصادية المتفاقمة وعجز الكثير من الدول عن الإيفاء بالتزاماتها السياسية والاجتماعية نحو مواطنيها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"