الجنات الضرائبية إلى أين؟

03:46 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

تعاني كل الدول أموالاً كبيرة تهرب وإيرادات ضرائبية لا تحصل، مما يمنعها من تلبية حاجات مواطنيها وتطوير بنيتها التحتية. تضطر أكثر من أي وقت مضى لملاحقة مهربي الضرائب أينما كانوا. معظم التهريبات يذهب إلى ما يعرف بالجنات الضرائبية التي تبقى سويسرا قائدتها، بل موجهتها في كل أنحاء العالم. تعتبر هذه الجنات الضرائبية أحد أهم أسباب توسع فجوة الدخل، مما يفسر إلى حد بعيد الحماسة الرسمية لملاحقتها ليس فقط بسبب المال وإنما أيضاً لتأثيرها الكبير في الاستقرار الاجتماعي في الدول المصدرة للأموال. تكمن صعوبة ملاحقة الأموال المهربة في الضبابية بل السرية التي توصف بها هذه الجنات التي تزدهر على حساب الدول الأخرى.
وسبَّب التساهل أو التقصير في محاربة الجنات الضرائبية غضباً شعبياً كبيراً في الدول المصدرة للأموال، حيث واقع الحال أن الغني والشركات الكبيرة يتهربون من دفع الضرائب وفي نفس الوقت يلاحق الفقير أو صاحب الأجر أو الشركات الصغيرة إذا فكروا في تهريب دولار واحد أو بضعة من الدولارات الآتية من عرق الجبين. هذا غير مقبول في عالمنا اليوم، حيث يجب أن يخضع الجميع للقوانين أغنياء وفقراء، وبالتالي غض النظر أو التقصير غير مقبولين شعبياً في الداخل ودولياً.
في إبريل/ نيسان 2009، قررت مجموعة العشرين المجتمعة في لندن محاربة الجنات الضرائبية، بل إلغاء كل ما يعرف برأيها بالحسابات السرية التي تعتبرها المجموعة في معظمها حسابات التهرب من الضرائب وتمويل عمليات غير شرعية. منذ ذلك الوقت، زادت الأموال الفردية المهربة إلى سويسرا 18% كما زادت 25% إلى مجموع الجنات الضرائبية المنتشرة في أمكنة وقارات عدة. كانت النتيجة معاكسة للتمنيات بل للسياسات الموضوعة. لا ننكر أن الشركات الكبرى تهرب أرباحاً في حدود 130 مليار دولار سنوياً. والمعلوم أن الجنات الضرائبية لا تتنافس مع بعضها بل تتكامل، أي تعتمد التخصص في هوية الأموال الآتية وكيفية استثمارها لصالح أصحابها. تبقى سويسرا لا شك الدولة الأولى في العمليات المصرفية الخاصة المصنفة «أوف شور» أو خارج الحدود.
موضوع الجنات الضرائبية وضع على نار حامية بعد التجربة الفريدة التي وقع فيها الوزير الفرنسي جيروم كاوزاك، في سنة 2012 والذي كان وزيراً للموازنة أي عملياً مهمته هي مكافحة التهريب والمهربين، فكان المهرب الأول. سجل صوته وهو يقول، إنه يملك حساباً خاصاً سرياً في سويسرا، فقامت القيامة ولم تقعد. عند استجوابه بالموضوع أنكر أنه يملك هذا الحساب، لكنه في نفس الوقت هرب أمواله إلى سنغافورة. أدى كشف الموضوع إلى حدوث فضيحة كبرى أدت حتماً إلى استقالته وإلى انهيار سمعته كطبيب وكسياسي بعد أن كان مستقبله واعداً لسنوات خلت. كانت المشكلة مالية وأخلاقية وربما الثانية أهم.
يقول غابرييل زوكمان، في كتابه عن «الثروة المخبأة» أن 8% من الثروة المالية العالمية الصافية موجودة في الجنات الضرائبية بزعامة سويسرا. يعرف «زوكمان» الثروة المالية الصافية بمجموع الودائع المصرفية والأسهم في الشركات والصناديق كما السندات بالإضافة إلى عقود التأمين بعد طرح أو إسقاط الديون. يقدر «زوكمان» مجموع هذه الثروة ب 95.5 ألف مليار دولار، 8% منها أو 7.6 ألف مليار دولار موجودة في الجنات الضرائبية، بينها 2.3 ألف مليار دولار في سويسرا. جميعها أرقام ضخمة إذا ما قورنت مثلاً بالناتج المحلي لدول صغيرة مثل لبنان، حيث يبلغ 50 مليار دولار، أو بديون عامة لدول متوسطة الحجم شغلت العالم كاليونان، حيث بلغت 350 مليار دولار أو بغيرها.
من يهرب أمواله إلى الجنات الضرائبية؟ أي ما هو مصدر ال 7.6 ألف مليار دولار؟ حصة الأسد تأتي من دول المجموعة الأوروبية ربما بسبب الضرائب المرتفعة على الدخل، ثم من آسيا فالولايات المتحدة وبقية الدول. يعود اهتمام الحكومات كما الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بموضوع تهريب الأموال كما بالتهرب الضرائبي إلى إمكانية تخفيف الضرائب عن المواطنين العاديين والشركات العادية إذا استطاعت ضبط التهريب المتواصل. لكن التقنيات المعتمدة بالإضافة إلى الفساد العالمي يمنعان دول المصدر حتى اليوم من إنهاء التهريب المضر بسمعتها واستقرارها الاجتماعي والشعبي.
من يهرب أمواله إلى سويسرا تحديداً؟ أي ما هو مصدر ال 2.3 ألف مليار دولار؟ تشير الأرقام التي قدرها «زوكمان» والمتداولة عالمياً إلى توزعها بمليارات الدولارات كالتالي: 260 من ألمانيا، 240 من فرنسا، 140 من إيطاليا، 230 من منطقة الشرق الأوسط و80 من الولايات المتحدة. هذا يعني أن 56.5% من التهريب إلى سويسرا مصدره أوروبي بسبب القرب الجغرافي والسرية المطبقة، بالإضافة إلى العلاقات التاريخية مع الدول المجاورة. تشير هذه الوقائع إلى أن التهريب من إفريقيا لا يأتي إلى سويسرا بل إلى جنات أخرى ربما برعاية وإشراف سويسري. في النسب من الناتج المحلي، تؤكد الأرقام أن النسبة العليا المهربة هي إفريقية المصدر. تقدر الدول المصدرة أن التهرب الضرائبي السنوي هو في حدود 200 مليار دولار أو 1% من مجموع الإيرادات الضرائبية. ال 200 مليار دولار هي قيمة الضرائب المهربة. أين تستثمر هذه الأموال؟ تشير الأرقام إلى أن 750 مليار دولار يوظفون في صناديق اللوكسوبورغ، 200 مليار دولار في الصناديق الأيرلندية، 500 مليار دولار في الأسهم و 600 مليار دولار في السندات.
هل يمكن اليوم عملياً القضاء على التهريب المالي أو أقله التخفيف منه إلى أقصى الحدود الممكنة؟ هنالك محاولات سابقة عديدة لم تنجح بسبب ضعف التطبيق وغياب التدقيق وهما ضروريان لتخفيف التهريب. ما زالت المعلومات المتوافرة حول الجنات الضرائبية غير كاملة بسبب الضبابية المعتمدة فيها منذ عقود. أما اليوم فيمكن اقتراح ما يلي:
أولاً: يقترح «زوكمان» وضع سجل عالمي للأموال والأصول المالية بحيث يعرف أين هي وكيف تتحرك. السجلات حتى اليوم ما زالت وطنية وليس هنالك أي تواصل فيما بينها. من الضروري أن يطلب من الجنات الضرائبية التعاون في إعطاء المعلومات وإلا واجهت عقوبات مالية وسياسية قاسية.
ثانياً: من العقوبات المقترحة من قبل مجموعة العشرين وضع حواجز جمركية مرتفعة أمام السلع الآتية من الجنات، بحيث تخسر ما تربحه من عملها غير الشرعي كجنات. لا شك أن منظمة التجارة العالمية ستتعاون مع هذه الاستثناءات.
ثالثاً: هنالك دعوة عالمية لتغيير طرق وضع الضرائب على الأرباح ونسبها، بحيث يخف الدافع للتهريب بل يصبح أصعب. مثلاً فرض ضرائب على أرباح الشركات ليس فقط في الدولة الأم وإنما في كل الدول التي تحقق فيها أرباحاً. هنالك قبول باستفادة الشركات من الفارق في الضرائب، لكن دون أن تتجنب الدفع كلياً.
رابعاً: لا يمكن التمييز بين جنة ضرائبية وأخرى، إذ إن معاقبة واحدة أو عدداً منها يدفع الأموال المهربة إلى الذهاب إلى أماكن أخرى. هذا يعني أن مواجهة الجنات الضرائبية يجب أن تكون عامة وبنفس درجات الدقة والسرعة والجدية.
خامساً: تحاول الولايات المتحدة فرض قوانينها المتخصصة على الدول، أي تلك التي لها علاقات مع الولايات المتحدة وتتعامل بالدولار أي أكثرية الدول. وضعت قوانين منها «فاتكا» التي تفرض على المصارف العالمية إعطاء أجهزة الضرائب الأمريكية كل المعلومات عن الأمريكيين أو أصحاب الإقامة الدائمة عمّا يمتلكون من أموال أوحسابات فيها. هذه محاولات جدية وستنجح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"