الجيش والسلطة في الوطن العربي

03:29 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

أعادت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها بعض الضباط الأتراك إلى واجهة النقاش السياسي والجدل الإعلامي دور المؤسسات العسكرية في البناء السياسي للسلطة في الدول العربية والإسلامية، وحاولت الكثير من الأطراف السياسية وبخاصة تلك المحسوبة على تيار الإسلام السياسي توظيف الحدث التركي من أجل توجيه هجوم سياسي عنيف على المؤسسات العسكرية في العديد من الدول، وجرى استخدام ألفاظ وعبارات جارحة من أجل الحديث عن النخب العسكرية التي وُصفت بكونها انقلابية و«معادية» للديمقراطية، بل و«محاربة» لاختيارات الشعوب من أجل الحصول على حريتها. ونحسب في هذه العجالة أن إعادة فتح النقاش بشأن مستقبل الدور السياسي للنخب العسكرية في بناء وترسيخ المشروع الوطني للدولة العربية المعاصرة، تحمل أهمية قصوى من أجل مجابهة المشاريع المشبوهة لجماعات الإسلام السياسي التي تختفي في الغالب وراء شعار ما تسميه الدفاع عن «إرادة الشعب»، من أجل تسفيه الدور الريادي الذي قامت وتقوم به أغلب النخب العسكرية من أجل المحافظة على الوحدة والسيادة الوطنية.
يترتب علينا أن نعترف منذ البداية بمبدأ رفض الانقلاب بكل صوره، بصرف النظر عن طبيعته، سواء أكان انقلاباً عسكرياً أو مدنياً أو دينياً أو حتى مجتمعياً، ويتوجب النظر في اللحظة نفسها إلى اللعبة الديمقراطية بوصفها تمثل مساراً متكاملاً لا يجب اختزاله في آلية صندوق الاقتراع، فهناك مكاسب مجتمعية وسياسية حققتها شعوب المنطقة يجب المحافظة عليها ودعمها بحقوق جديدة، تكرس ثقافة المواطنة وحرية التعبير والمعتقد والتداول السلمي للسلطة، الأمر الذي يعني أن رفض الانقلاب وشجبه يجب ألا يوظفا من أجل القيام بانقلابات أخرى أشد خطراً على وحدة وتماسك المجتمعات.
كما يجب علينا أن نذكر في سياق هذه المقاربة المتصلة بالمؤسسة العسكرية وآليات ممارسة السلطة، أن الجيوش العربية لعبت، منذ منتصف القرن الماضي دوراً ريادياً في قيادة التحرر الوطني ضد الاستعمار، وفي بناء دول حديثة وعصرية ؛ في مجتمعات لو تُركت فيها حرية التصرف والمبادرة للنخب التقليدية والمحافظة من أجل قيادة دفة الحكم، لبقي الجزء الأعظم من الشعب العربي ضحية للجهل والتخلف، ولظلت المرأة تنتقل طوال حياتها، من قبر وسجن زوجها إلى قبر مدفنها الأخير. ويمثل هذا التوصيف - في اعتقادنا - حقائق لا يمكن أن ينكرها أحد، ومثلت في بعض جوانبها الجزء الأساسي من الخلاف الذي نشب ما بين الرئيس جمال عبد الناصر وحركة الإخوان المسلمين حول طبيعة مشروع المجتمع المصري.
وبالتالي فإننا نزعم أن تدخل المؤسسة العسكرية في المسار السياسي للدول لا يمثل في حد ذاته عنصراً سلبياً، من منطلق أنه يتحول في لحظات تاريخية مفصلية إلى ضرورة وإلى واجب وطني من أجل المحافظة على السلم الأهلي، وأذكر هنا مناسبتين جرى بشأنهما لغط كبير ومزايدات من أطراف لم تكن في أغلب الأحوال على اطلاع كافٍ على تفاصيل المشهد كما كان يعيشه أصحابه. المناسبة الأولى، تمثلت في قرار المؤسسة العسكرية الجزائرية توقيف المسار الانتخابي وإلغاء الدور الثاني من الانتخابات التشريعية التي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، قد فازت بأغلبية مقاعدها في الدور الأول، وقد أثبتت التطورات اللاحقة خطأ كل مواقف من راهنوا على «الحس الديمقراطي» المزعوم لتيارات الإسلام السياسي.
وتمثلت المناسبة الثانية في تدخل الجيش المصري بعد ثورة 30 يونيو، استجابة لرغبة شعبية عارمة دعته إلى تحمل مسؤولياته الوطنية من أجل حماية فئات واسعة من الشعب المصري من تجاوزات الإخوان، وبخاصة بعد أن بدأ المواطنون يشعرون بأن قسماً كبيراً من عاداتهم الحياتية أضحت مهددة، بعد أن بدأ التنظيم ينشر كوادره وإطاراته داخل مؤسسات الجمهورية، وبعد أن شرع في اللحظة نفسها في تصفية حساباته مع قطاع القضاء. وهذا ما يدفعنا إلى القول، إن تنظيمات الإسلام السياسي التي تصف الجيوش الوطنية بالطواغيت، لم يكن بإمكانها أن تكون جزءاً من اللعبة الديمقراطية، لأنها لا تريد في الأصل جيشاً وطنياً بقدر ما تطمح إلى تأسيس ميليشيات مسلحة قادرة على خدمة مشاريعها المتهافتة.
ويمكننا القول في سياق متصل إن الذين يصفون الآن الجيش التركي، بأبشع الأوصاف، يتناسون أن هذا الجيش هو الذي حمى بقيادة كمال أتاتورك الأمة التركية من التفكك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وأفشل مخططات الاستعمار البريطاني الذي كان يهدف إلى تقسيم تركيا إلى دويلات، وهو الجيش نفسه الذي قاد بفضل نضاله الطويل تركيا إلى مرحلة الحداثة والتطور، التي قطف ثمارها حزب العدالة والتنمية مع بداية الألفية الجديدة.
ونستطيع أن نخلص في الأخير إلى أنه من الخطأ الفادح أن ننظر إلى الجيوش الوطنية في أغلب دول العالم الثالث بناءً على القاعدة نفسها التي ننظر انطلاقاً منها إلى الجيوش في الدول الغربية - الرأسمالية، التي تخضع فيها الجيوش الاحترافية، للنخب البيروقراطية والأوليغارشية المهيمنة، الراعية لقواعد اللعبة السياسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"