الحوار بوصفه مبدأً دينياً وحياتياً

02:55 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحوار مبدأ قرآني وعلامة من علامات التحضر البشري، ولكثرة ما ترددت هذه الكلمة في النصف الثاني من القرن العشرين وإلى مطالع هذا القرن فقد ظنها البعض من مستجدات الحداثة الغربية، وحتى أولئك الذين يقرؤون القرآن الكريم ويتعايشون مع آياته ليلاً ونهاراً لا يكادون يدركون أهمية الحوار في القرآن ولا يتوقفون عند المشاهد الحوارية المقصودة التي تشكِّل دروساً في فن التعامل ومنهجاً لحياة يسودها التفاهم والوفاق.
وكم تشدني وتهزني تلك الدلالات الواضحة المجسدة في سورة «المجادلة» التي تبدأ هكذا (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) هنا يأتي الحوار اسماً وأسلوباً ومعنى. وحين يتنكر المختلفون لهذا المبدأ الجليل ويتمسك كل طرف من أطراف التنازع بوجهة نظره الجامدة ويرفض الانصياع إلى الحوار، فلا يبقى أمام المتنازعين سوى الاندفاع نحو الفتنة بكل ما يرافقها وينتج عنها من إخلال بنظام الحياة ومن فقدان لأبسط معاني التعايش بين الآراء والأفكار، وبين الموقف وما يقتضيه الحال من تعددية الرؤية نحو شؤون الحياة ومستجداتها.
ونحن في الوطن العربي أحوج ما نكون إلى هذا المبدأ العظيم، مبدأ الحوار والاستجابة لمنطق العقل والحكمة وما يؤدي إليه من فهم للقضايا المختلف عليها. وقد تكون كثير من الأمور التي نختلف عليها نحن في هذا الوطن الكبير مصدراً للتفكه والسخرية وتبدو للباحث المتعمق في أحوال الشعوب ثانوية وغير جدير بالخصام والاختلاف، ولا ينبغي أن نكون سبباً في إيصال المختلفين حولها إلى هاوية الاقتتال والعداء السافر. والوقائع التي تجري الآن في الأرض العربية ما كان لها أن تجري وأن تقود إلى استخدام السلاح لا لأن استخدامه بين الإخوة في المصير محرم فحسب؛ بل ولكونه من الوسائل الخاسرة. كما أن الحرب ليست من علامات القوة أو الشجاعة، بقدر ما هي وسيلة من وسائل الهروب من الحوار والانصياع إلى المنطق وحل المشكلات بما هو أحسن وأرقى. إن الفاشل الذي لا يملك الحجة القاطعة في مواجهة خصمه هو الذي يهرب من الحوار إلى السلاح ويختار أقصر الطرق إلى الهاوية.
ويبدو أن استصغار مبدأ الحوار واستخدام الكلمة في غير موضعها قد أبعدها عن معناها وأضعف من أهميتها وحوَّلها إلى معنى من المعاني العادية جداً والمتداولة بإسراف في الحياة العامة، يضاف إلى ذلك أن الحوارات السياسية التي تتم في الواقع العربي لم تكن محكومة بضوابط وقواعد معينة تفضي بها إلى التطبيق والخروج بها من دائرة المتحاورين إلى دائرة الفاعلين لهذا دائماً تصاب الحوارات بالفشل، ولو حدث لحواراتنا السياسية العربية أن اتصفت بالعملية ووضع ما توصلت إليه في الإطار العملي اليومي لما وصلت قضايانا إلى الطرق المسدودة ولما كانت هناك حاجة للسلاح أو مبرر لاستخدامه في مخالفة صريحة للقيم والأعراف والتقاليد التي كانت محل اعتبار حتى في عصور ما كان يسمى بالجاهلية الأولى، جاهلية ما قبل الدين وما قبل المدنية والدساتير.
ومن البديهيات القول بأنه لا توجد حياة على وجه الأرض لا تعتورها الخلافات ولا تتعرض العلائق بين أبنائها للشد والجذب، والنموذج المثالي للتعامل الكامل لا مكان له على الأرض حيث تتعارض المصالح وتختلف الميول، وفي وسع الحوار أن يسوي كل الخلافات، وعلى الإنسان أن يبدأ هذه التسوية مع نفسه، وأن يجعل من الحوار الداخلي مع النفس نقطة عبور وحافزاً إلى التسوية مع خارجه، من خلال لجم التطلعات الاستفزازية والمتجاوزة للمنطق، ومن شأنها كذلك أن تقوي الشعور بأهمية التصالح بين المختلفين والاعتراف بأن من يخالفنا الرأي ليس عدونا، بل شريكنا في مواجهة مصاعب الحياة. ويلاحظ أنه كلما تطورت الشعوب واتسعت مساحة التقدم فيها توفرت للناس إمكانات التعايش والنظر إلى الواقع من زواياه المختلفة، وزاد احترامهم لوجهات النظر المخالفة بوصفها حقاً طبيعياً لا يمكن تجاوزه أو مصادرته.
ومن الواضح أن أزمتنا الراهنة نحن العرب هي أزمة تخلف وجهل بحقائق الحياة وكيف ينبغي أن تكون، ولا سبيل إلى الخروج منها سوى بالحوار والحوار المفتوح الذي يفضي إلى حلول عملية تتجسد على بساط الواقع لا على ظهر الورق.

د. عبدالعزيز المقالح
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"