"الخليج" و40 سنة من العمر الريادي

04:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

الخمسة عشر عاماً الأولى، من منتصف الخمسينات، وحتى أفول العام الأخير من ستينات القرن المنصرم في تاريخ الإمارات، كانت أعوام المخاض والشد والمد، وأعوام البواكير الأولى للتحول، وأعوام القلق، وعهوداً مشوبة بعدم الاستقرار النفسي عند الإنسان الإماراتي .

في هذه الاعوام أطل ما يشبه المؤسساتية برأسه، وبدأ يأخذ شكلاً وطابعاً تنظيمياً، في مجتمع لم يكن له عهد بالتنظيم المؤسساتي . وفي هذا الوقت، بدأت أضواء التعليم الحديث تومض ببريقها في الشارقة ودبي، ثم في بقية الإمارات، وفي هذا الوقت، طرقت الأسماع بجلجلة واسعة نداءات القومية العربية والتحرر العربي المناهضه للغرب ووجوده ونفوذه في المنطقة العربية، وألقت هذه النداءات بظلالها على مشاعر الناس الذين كانوا يتوقون إلى التغيير، أي تغيير لواقعهم، وهم لا يعرفون ما هو المساق، أو كيف تتبين معالم الطريق . فالناس أو قل، جلهمّ، لم يكن لهم نصيب من رغد الحياة التي كانت نسائمها تهب هنا وهناك في بقع أخرى قريبة وبعيدة . وكل يقول ليت الحاضر يرحل ليأتي قادم سواه، وفي قوله هذا يردد ما ذهب اليه الشاعر العربي الذي عاش في وضع لم ينل منه نصيباً ولا حظاً، فتمنى زوال حاضره .

اذا لم يكن للمرء في دولة امرئٍ

نصيب ولا حظ تمنى زوالها

وفي هذه الأعوام الخمسة عشر، وعند اقتراب نهايتها وهي تخطو نحو السبعينات، أو عندما اقترب عام التسعمائة والسبعين بعد الألف من الميلاد، هزت النفوس أنباء أثارت أفراحاً وأثارت اضطراباً في الوقت نفسه، وهذه الأنباء كان مفادها إعلان الانجليز انسحابهم من المنطقة الخليجية بحلول عام ،1971 أي بعد ثلاث سنين من تاريخ الاعلان (يناير/ كانون الثاني 1968)، والقرار المصاحب للإعلان هو ترك الحبل على غاربه لأهل المنطقة أن يقرروا اتجاهاً مستقبلياً يرضونه لأنفسهم .

الفرح . . هو أن أمة خليجية عربية جديدة توشك أن تولد، وتجلس مزهوة بين قريناتها في المنطقة وفي غيرها من العالم . أما القلق المصاحب للفرح، فهو أن المخاض عسير، وأن المولود القادم قد يفتح عينيه في جو تلفه سحب الكآبة والاضطراب النفسي . وبدأت أسئلة محيرة تفرض نفسها: ما المصير بعد انسحاب الانجليز؟ هل هناك مقومات لقيام دولة على هذه الأرض، أرض الإمارات؟ أليس هناك من يفغر فاه منتظراً ليلقف ويبلع أية تركة؟

بين خضم هذه الأنباء المفرحة والمقلقة في آن، كما تحدثنا عنها، كان هناك من ذوي العزائم من الناس، وكان هناك من ينضم إلى قافلة المتفائلين الذين كان يزداد عددهم يوماً بعد يوم، في خلال تلك السنين الثلاث المشار اليها آنفاً . تلك القافلة التي كان يقودها زايد بن سلطان، إلى الأمام لا يلوي على شيء بعزيمة وحنكة وحكمة، وخلق زايد حوله رفاقاً من ذوي الشأن في الإمارات، كان راشد بن سعيد بن مكتوم أبرزهم في الدور الريادي في رسم خارطة الطريق . وكان الكل في حقيقة الأمر يسعى إلى بلوغ الهدف، والهدف هو ضمان الوجود أولاً، ثم ضمان الاستمرارية، لئلا يأتي ما ليس في الحسبان وتكون العواقب غير محمودة . وكان لكل من هذه القيادات أسلوبه في تحقيق الضمان المطلوب . وإذا قدّر للتاريخ أن يدلي بدلوه في حوادث تلك الأيام، فإنه سيكون خير شاهد على العصر .

من هؤلاء الرفاق، كانت هناك ثلة من الشباب الأهلي التواق إلى عصر التغيير . وكان هناك شاب اسمه تريم عمران، على رأس هؤلاء . تشرّب تريم بروح من النضالية الإنسانية غير الشوفينية، وكان مليئاً بحيوية الشباب الذي كان يرى الأمل كله في المستقبل، وأن العوائق المعترضة هنا وهناك، ينبغي ألا تقف حائلة أمام بلوغ الهدف، هدف النهوض وإحداث التغيير . وفي هذا المسعى النهضوي وضع الأخوان، تريم عمران وعبدالله عمران، اللبنات الأولى في صرح بنية ثقافية إعلامية نهضوية أهلية، تعمل في خدمة الوطن وتحاول الإعلاء من شأنه بخطة أهلية وطنية مستقلة، ومعاضدة في نفس الوقت للخطة العامة للنهوض . فكانت الخليج من مخرجات هذا المشروع الثقافي الوطني الكبير، الذي أوجدته أيادٍ ثابتة في عزائمها وطموحها منذ أربعين عاماً مضت .

لقد بقيت دار الخليج ومؤسسة الخليج، رغم مرارة الزمن، ورغم مرارة الأيام وشدتها، خلال الأعوام الأربعين من عمرها، وبصرف النظر عن رؤية الموالاة لها أو الاعتراض عليها، قلعة كبيرة تقف منتصبة القامة، ومتصدية لعاديات الحوادث، لا ترجع إلى الوراء أو بالأحرى لا تتراجع في خطواتها نحو النمو في كل وقت . وفي رأيي أن ذلك يرجع إلى عاملين مهمين، عامل الثقة بالنفس عند القائمين عليها، وعامل وضع المصالح العامة نصب العين، ومتى ما تلاقى هذان العاملان في خطة أي مشروع نهضوي، فإن مآل هذا المشروع إلى النجاح .

لقد قدّر لي شخصياً أن أكون أحد الشاهدين على العصر، عصر الخمسين سنة الفائتة، بكل حلاوتها ومرارتها، وأحد الذين قربوا من مؤسسي هذا الصرح الإعلامي الضخم، صرح الخليج، خلال أعوام وجودها، وكان لي شرف المرافقة والسير مع قافلتها وهي تسير متئدة آناً، ومسرعة آناً آخر . ولكن في الحالتين كان هذا السير ذا نفع كبير للناس . . وما ينفع الناس يمكث في الأرض . . أما الزبد فيذهب جفاء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"