الخيارات الجيوسياسية لفرنسا

03:14 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تسعى فرنسا منذ الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي إلى إعادة التموقع الجيوسياسي والجيواستراتيجي على أكثر من صعيد؛ من خلال العمل على إعادة ترتيب علاقاتها مع الدول الغربية، ومع إفريقيا والشرق الأوسط، إضافة إلى سعيها لإعادة صياغة سياستها الخارجية مع روسيا، والتنين الصيني؛ بناءً على قواعد جديدة، ويرى المتابعون للشأن السياسي الفرنسي، أن باريس لم تعد تمتلك فرصاً كثيرة أو مساحات كبيرة للمناورة، وأصبحت خياراتها محدودة فيما يتعلق بأجنداتها الخارجية؛ نظراً للتغيرات المتعاقبة، التي حدثت على مستوى المشهد الدولي.
وقد جاءت جولة الرئيس الفرنسي الأخيرة إلى شرق إفريقيا، التي قادته إلى جيبوتي وإثيوبيا وكينيا؛ لتبرز حجم القلق الفرنسي بشأن تراجع نفوذها في القارة السمراء في مواجهة تمدد الصين شرقاً وغرباً، لاسيما وأن علاقة باريس بمستعمراتها السابقة في إفريقيا، يغلب عليها التوتر السياسي؛ الناجم عن رفض الكثير من النُخب السياسية في الدول الإفريقية، للتدخلات الفرنسية المتكررة في شؤونها الداخلية، ومحاولة فرض نوع من الوصاية الأبوية عليها، وتحاول فرنسا الآن من خلال تواجدها العسكري المكثف في منطقة الساحل، مساعدة حلفائها في المنطقة على مواجهة الإرهاب، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على السلطة في دول المنطقة، لولا التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي وتشاد.
وتواجه فرنسا بالقرب من محيطها الجغرافي في أوروبا صعوبات كبيرة على مستوى علاقاتها مع دول وسط أوروبا؛ مثل: المجر وتشيكيا، وشهدت علاقاتها مع جارتها إيطاليا توتراً كبيراً لم تعرف العلاقات بين البلدين مثيلاً له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على خلفية تصريحات القادة الإيطاليين بشأن مسؤولية فرنسا عن أزمة المهاجرين. أما علاقة باريس ببرلين، وبالرغم من قوتها واستقرارها؛ فإن فرنسا باتت تشعر أن هذه العلاقات بدأت تصل إلى نهايتها، وأنها لن تكون في المستقبل القريب في نفس المستوى، الذي وصلت إليه خلال السنوات الماضية، وبخاصة بعد مغادرة ميركل للسلطة.
وبالنسبة لعلاقة باريس مع واشنطن، فإنها استنفذت كل طاقتها وحيويتها؛ إذ إنه وبالرغم من كل الجهود، التي بذلتها فرنسا، لتقدم نفسها كحليف رئيسي لواشنطن في أوروبا الغربية، وبخاصة منذ تولي ماكرون للسلطة في قصر الإليزيه، فإن الرئيس ترامب أصر من خلال تصريحاته المستفزة والمتكررة تجاه باريس، على أن يؤكد لماكرون ولغيره أنه يتعامل مع الجوانب السياسية والدبلوماسية من منظور رجل المال والأعمال، وأن ما يعنيه في المقام الأول هو مصالح أمريكا، وأنه مستعد لفرض عقوبات اقتصادية على حلفائه الأوروبيين إذا استدعت الضرورة ذلك؛ من أجل حماية مصالح بلاده.
كما أن خيارات باريس في الشرق الأوسط باتت جد محدودة؛ حيث ترفض «إسرائيل» أن تسمح لفرنسا، ولكل الدول الأوروبية لعب أي دور أساسي في إدارة الصراع العربي- الصهيوني، لاسيما في عهد الرئيس ترامب، الذي تحالفت فيه واشنطن و«تل أبيب» مع بعضهما بشكل كامل ضد باقي دول العالم، في مواجهة كل قوانين الشرعية الدولية.
وفي السياق نفسه، لم تكن باريس موفقة تماماً في سياستها الخارجية بشأن الأزمة السورية؛ بعد أن راهنت بشكل خاطئ على الموقفين الأمريكي والبريطاني.
ويمكن القول، إن محاولة باريس إمساك العصا من الوسط في علاقتها مع الرئيس الروسي بوتين ومع الصين لم يخدم كثيراً مصالحها الوطنية، فالأزمة الروسية - الأوكرانية ما زالت ملتهبة؛ بالرغم من الجهود المشتركة، التي بذلتها فرنسا وألمانيا؛ من أجل إيجاد حلول توافقية بشأن هذه الأزمة البالغة التعقيد.
أما بالنسبة لعناصر القوة الناعمة لفرنسا، فإن خيارات باريس على مستوى «منظمة الفرانكوفونية» في مواجهة تحالف ما يُسمى ب«العيون الخمسة»، الذي يضم الدول الناطقة بالإنجليزية: (أمريكا، بريطانيا، كندا، أستراليا ونيوزيلندا)، يبدو متواضعاً إلى حد كبير، من منطلق أن تحالف الدول الناطقة بالفرنسية يحمل طابعاً رمزياً، ويركز على الجوانب الثقافية، التي لها تأثير ضعيف على الأبعاد الجيوسياسية والجيواقتصادية؛ وتجد باريس بموازاة كل ذلك صعوبة بالغة من أجل المحافظة على القدرة التنافسية لصناعتها المدنية والعسكرية، ويعد إسهامها في مجال التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي ضعيفاً، إذا ما قورن بما تقدمه دول؛ مثل: الصين وكوريا الجنوبية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"