الدولة العميقة من أمريكا إلى فرنسا

06:41 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التوجهات السياسية لرؤساء الدول الكبرى خلال الحملات الانتخابية التي شهدتها عواصم اتخاذ القرار الرئيسية في الغرب، بخاصة بعد فوز الرئيس دونالد ترامب في معركته الحاسمة في مواجهة هيلاري كلينتون في الولايات المتحدة، وانتصار إمانويل ماكرون على غريمته مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا. وقد جرى تقديم الكثير من التحليلات السياسية، والقراءات الاستشرافية المتعلقة بالتحولات الجيوسياسية، والجيواستراتيجية التي سوف تنجم عن انتخاب هذا الرئيس، أو ذاك، وتوافر لدى المتابعين للشؤون الدولية الكثير من المعطيات التي هدفت إلى محاولة المساعدة على فهم التحولات الأساسية والعميقة التي يمكنها أن تقع في هذه الدول التي تؤثر أحداثها ووقائعها الداخلية، بشكل لافت، في مسار السياسة العالمية.
لكن كل هذه القراءات وبالرغم من ثرائها وغناها إلا أنها لم تشر إلا لماماً، وبشكل يكاد يكون هامشياً، إلى مسألة الدولة العميقة، ودورها في التأثير في صناع القرار، وفي توجيه خيارات الرؤساء المنتخبين، الذين لا يملكون في الغالب هامشاً كبيراً يسمح لهم بتنفيذ برامجهم، ووعودهم الانتخابية بكل حرية، بعيداً عن إكراهات السلطة، ومنطق الدولة.
ونستطيع القول إن الحديث عن الدولة بمعانيها المتعددة، ولاسيما عن معنى الدولة العميقة بشكل خاص، يأخذ أهميته الراهنة، انطلاقاً من التحولات السياسية، والفكرية التي يشهدها العالم، حيث إنه وبعد مرور عقود من الزمن على هيمنة مفاهيم من قبيل السلطة، أو النظام، أو حتى النخب، من أجل فهم وتحليل الظواهر المتعلقة بالإخضاع والسيطرة في المجتمعات المعاصرة، عادت أدبيات علم الاجتماع السياسي مؤخراً إلى الاهتمام بشكل لافت بمفهوم «الدولة»، وبكل ما يحيط به من مفاهيم إجرائية مشتقة منه، تحيل إلى التمفصلات المختلفة لهذا المفهوم، وفي مقدمها مفهوم «الدولة العميقة». ويشير مفهوم الدولة العميقة الذي تبلور داخل الفضاء السياسي الأمريكي بداية من التسعينات من القرن الماضي، إلى الهيئات الموجودة داخل الدولة الأمريكية، وإداراتها المختلفة التي تملك فعلياً، وبشكل سري، سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة بمعزل عن التحولات الحاصلة على مستوى المؤسسات التمثيلية التي تظهر في الواجهة، مثل الحكومة، والأحزاب السياسية.
كما يشير مفهوم الدولة العميقة في سياق متصل، إما إلى نواة الأقلية الأولغارشية، أو الطبقة المهيمنة، وإما إلى الهيئة الممثلة لمصالح اللوبيات في مجالات مثل المال، والسلاح، والبترول.. إلخ. وتكون هذه الهيئة داخل الدولة البيروقراطية، بمثابة المكوّن السياسي الضيّق والأكثر انغلاقاً، ولكن أيضا الأكثر نشاطاً وفاعلية، ومن ثمة الأكثر سرية داخل هرمية المؤسسة الحاكمة. وتؤكد أغلب المعطيات المتوافرة أن هذه الدولة العميقة هي التي وقفت وراء اغتيال جون كنيدي، وأسهمت في تفجير فضيحة ووترغيت، وهي التي عملت مؤخراً على إضعاف فرانسوا فيون الذي كان يبدو في بداية الأمر، المرشح الأوفر حظاً للفوز بانتخابات الرئاسة الفرنسية الأخيرة، من خلال تسريب قضية الوظائف الوهمية إلى وسائل الإعلام، وذلك ما دفع فيون إلى الحديث عن وجود «غرفة سوداء» تعمل على توجيه مسار الانتخابات. وبالتالي فإن «الدولة العميقة» ليست مجرد مفهوم افتراضي يحيل إلى الذهنية المهووسة بنظرية المؤامرة، ولكنه مصطلح وظيفي يرمز إلى تلك الأجهزة البيروقراطية الراسخة والمؤثرة في الإدارات العسكرية والأمنية والدبلوماسية في مختلف الدول.
ومن الواضح بناءً على ما يحدث من تطورات سياسية في واشنطن، أن الدولة الأمريكية العميقة التي تمتلك مصلحة كبرى في الإبقاء على العداء التاريخي مع روسيا، لن تتوقف عن ممارسة كل أشكال الضغوط الممكنة على الإدارة الجديدة، من أجل الالتزام بضوابط السياسة الأمريكية، سواء تعلق الأمر بالملف الروسي، أو بالملفات الأخرى التي لها علاقة مباشرة بمصالح المجمع الصناعي- العسكري.
وتجدر الإشارة إلى أن الدولة العميقة التي نتحدث عنها في هذا السياق، هي نفسها التي سبق أن فضح ممارساتها الرئيس الأمريكي إيزنهاور في يناير 1961، عندما حذر مواطنيه من التأثير الذي يمارسه المجمع الصناعي- العسكري في المجال السياسي والاقتصادي، وحتى الروحي، في مختلف المدن والولايات والإدارات الأمريكية المختلفة.
كما أن هذه الدولة العميقة في فرنسا، ممثلة في أذرعها الإعلامية الكبرى، هي التي أسهمت في صناعة صورة الرئيس الفرنسي الجديد، وجعلته يتحول في أشهر قليلة من مجرد خبير مالي واقتصادي إلى رجل دولة قادر على التحكم في أبجديات خطاب السلطة، ويحظى بتأييد قطاع كبير من رجال المال والأعمال في فرنسا؛ وقد أشارت إحدى الصحف الفرنسية الشهيرة إلى أن بريجيت ماكرون، زوجة الرئيس المنتخب، اعترضت على قيام بعض مناصريه قبل 15 يوماً من تاريخ الجولة الأولى من الانتخابات، بإلصاق صور لزوجها، يبدو فيها أكبر من سنه الحقيقي، وتدخل ماكرون ليقنعها، أن المسألة مدروسة وتندرج ضمن خطة وضعها خبراء في مجال الإعلام والاتصال تهدف إلى إبرازه بمظهر يتماشى مع ما يتصوره عامة عن الناس عن سن الشخص الذي سيتولى منصب الرئاسة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"