الدول و«روح القانون»

03:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

درس الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو (1689-1755)، أشكال الحكم في الدول، وخلص إلى أشكالٍ ثلاثة، هي الملكية والديكتاتورية والجمهورية، وخاض في تفاصيل شرعية كل منها، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا، قد شهدت تحولات كبيرة، وفي مقدمها ترسيخ الحكم الملكي الدستوري في بريطانيا، والذي أعطي فيه البرلمان صلاحيات كبيرة، على حساب الصلاحيات التي نُزعت من الملك، وقد اعتبر مونتيسكيو، أن مهمة أي نظام سياسي هي المحافظة على حرية الإنسان، وانطلاقاً من هذه القناعة، انحاز إلى النظام الجمهوري، لكونه يمثل، من وجهة نظره، حكم الشعب.
وشكل مبدأ «حماية حرية الإنسان»، أحد الهواجس الكبرى لدى الفلاسفة وعلماء الاجتماع والحقوقيين في القرون الأخيرة، حتى أن الأمم المتحدة قد أولت، بعد ثلاث سنوات من تأسيسها، أهمية خاصة للحريات، وهو ما تجلى في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان».
وتطور النظر والتنظير والتشريع الحقوقي المتعلق بالحريات عبر صيرورة تطور مرتبطة بالدولة؛ إذ إنه منذ الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679)، أصبحت الحرية مقرونة بالدولة، عبر ما بات يعرف ب«العقد الاجتماعي»، والذي يتخذ صيغة دستور، هو الحاكم والفيصل في علاقة الدولة ونظامها السياسي بالمجتمع وأفراده، لكن مضمون هذا العقد الاجتماعي سيشهد، منذ قرون، تحولات كبيرة، خاضت الشعوب من أجلها معارك نضالية، كان من بين نتائجها، في أوروبا على أقل تقدير، إعطاء الحريات المدنية مكانة بارزة ومميزة في الدساتير.
وأما الأنظمة السياسية، فقد نظرت إلى حقوق الإنسان من خلال أيديولوجيا النخب السياسية الحاكمة، وأحزابها السياسية. وعلى الرغم من الاعتراف النظري، في معظم الدساتير، بحقوق الإنسان، إلا أن الواقع العملي بقي مختلفاً، وبقيت المسافة شاسعة بين المواد الدستورية وبين الآليات التنفيذية، خصوصاً في الدول التي لم تعرف أنظمة ليبرالية؛ حيث تتمتع النخب السياسية، في النظم غير الليبرالية، بمكانة ونفوذ يسمحان لها بأن تكون فوق الدساتير نفسها، بل وبإمكانية تغيير الدساتير، وفقاً لمصالحها.
لقد اعتبر الفيلسوف الأمريكي المعاصر فرانسيس فوكوياما، في أطروحته «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، بأن الدولة الليبرالية الديمقراطية هي الأفق النهائي للدولة، منطلقاً من توافقها مع النظام الرأسمالي، ولمحافظتها على الحقوق الفردية للإنسان، لكن فوكوياما لم يأخذ بالحسبان أن النظام الرأسمالي نفسه هو أحد أسباب عدم نشوء الدولة الليبرالية في عدد كبير من دول العالم؛ حيث يدعم هذا النظام بقاء الأنظمة الديكتاتورية، طالما أنها تخدم مصالحه.
وفي عالمنا العربي؛ حيث لا تزال الاقتصاديات خاضعة لمنطق الريع، بعيداً عن آليات السوق الرأسمالية، وما تتضمنه من قدرة على توليد كيانات اجتماعية/سياسية تدافع عن مصالحها وحقوقها، بما في ذلك الحقوق المدنية، فإن الأنظمة السياسية هي من تحدد فعلياً العلاقة بين الدساتير والآليات التنفيذية؛ حيث تغيب «روح القانون» وهو، بحسب مونتيسكيو، الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، وبالتالي فإن الحقوق المدنية، أي حقوق الإنسان، تصبح رهناً بإرادة السلطة السياسية، ولا تعود رهناً بالمواد الدستورية.
لقد أدركت معظم الأنظمة السياسية في العالم العربي أن منع أي تحول يعاكس مصالحها يمكن في أمرين، يتمثل الأول في خنق نمو السوق الرأسمالية، وهو ما عنى فعلياً التحكم المركّز في توجهات الاقتصاد، أما الأمر الثاني فهو جعل السلطة السياسية/التنفيذية هي المرجع والفيصل، والمتحكّمة بالسلطتين القضائية والتشريعية، وبالتالي القضاء على ما عرّفه مونتيسكيو بأنه «روح القانون».
وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الدولة العربية، ما بعد الاستقلال، فإننا سنجد أن ما عرف ب«الدولة الوطنية» هو من الناحية العملية إعادة إنتاج للسلطة، وليس عملية بناء الدولة/المؤسسة.
إن التحول من السلطة إلى الدولة هو تحول تاريخي ينهض على إعادة بناء الدولة كمؤسسة، وفك احتكار السلطة السياسية للدولة، وتحرير السلطتين التشريعية والقضائية من قبضة السلطة التنفيذية، بل وتحرير السلطة التنفيذية من أي احتكار لها، وهو ما يعني بالأساس إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والدولة، وجعلها علاقة محكومة ب«روح القانون»؛ حيث لا أحد، أكان شخصاً أم حزباً أم فئة، فوق تلك الروح.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"