الديمقراطية ليست مجرد انتخابات

03:02 صباحا
قراءة 4 دقائق

من يعرف اسطنبول يدرك أنها مدينة يولي سكانها (13 مليون نسمة) اهتماماً كبيراً لزراعة النباتات والأشجار مستفيدين من توفر المياه .

الأشجار على جانبي الأسواق، والمحال التجارية شأنها شأن البيوت المنزلية تتقدمها دائماً نباتات خضراء وأشجار يانعة . أن يحتج محتجون على اقتلاع 600 شجرة في ميدان تقسيم وسط المدينة، ليس سبباً تافهاً كما يحسب أولئك الذين لا تعني لهم الطبيعة أو التوازن البيئي شيئاً يذكر .

تغيير معالم المدينة بإزالة حديقة كبيرة هو سبب آخر لا يقل أهمية، فالمساس بروح المدينة وهويتها يثير أعمق درجات القلق، علماً أن الاحتجاجات لم تقتصر على اسطنبول المستهدفة، بل شملت 60 مدينة بما يشكل حدثاً استثنائياً في بلاد الأناضول .

كذلك الشأن في ما يعتبره الأتراك نمط حياتهم، القائم على التنوع الثقافي والاجتماعي والحريات الفردية، واحترام هذا التنوع . وقد شعر قطاع كبير من الأتراك، وجلهم مسلمون، أن نمط حياة جديداً على وشك أن يُفرض عليهم، فكان أن هبّوا للاحتجاج . في الأنظمة الديمقراطية، احتجاجات كهذه تقدم خدمة كبيرة للحكومات المنتخبة وذلك في التأشير بصوت عال على مواطن الخلل، فالمستشارون مهما بلغت كفاءتهم ونزاهتهم ليسوا وحدهم من يحوزون الحقيقة .

نعم الحكومة التركية منتخبة، لكن ذلك لا يعني أن الشعب قد انتهى دوره بعد أن انتخب حزب العدالة والتنمية . للشعب أن يقول كلمته كل يوم، ومن واجب الحكومة التركية الإصغاء وتفحص المطالب حين لا تكون هذه المطالب فردية أو فئوية، أو ذات منظور حزبي ضيق . الشعب قال كلمته، المعارضة موجودة . عبدالله غول رئيس الدولة قال تعليقاً على الاحتجاجات إن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات، وغول صعد به حزب العدالة والتنمية إلى المركز الأول، ولا ينتمي إلى صفوف المعارضة .

من الواضح أن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، يولي الوضع الإقليمي اهتماماً أكبر من الوضع الداخلي في بلاده، وبدليل أنه غادر أنقرة بجولة خارجية في اليوم الثاني لاندلاع الاحتجاجات . وحتى مع وجود مواعيد مسبقة لجولته، فإن التطورات الداخلية كانت تستحق منه البقاء في بلاده، والاعتذار من مضيفيه عن عدم تلبية الدعوات في مواعيدها . تصريحاته المتوترة عكست انقطاعاً منه عن التعددية السياسية والحزبية في تركيا . علماً أن الاحتجاجات لم تأخذ طابعاً حزبياً بل تصدرها شبان غير مسيسيين، كما كان الحال في العواصم العربية التي شهدت موجات الربيع العربي، وهو تذكير لا يروق لزعماء الحزب الحاكم . وكان الأحرى بهم الإصغاء لاتجاهات الشارع منذ حاول نحو خمسين شخصاً منع عملية تدمير الحديقة . فالديمقراطية ليست ذريعة لممارسة عسف ديكتاتوري المنزع . والاستجابة لمطالب المحتجين ليست انحناء ولا تنازلاً، بل هي من قبيل الاحتكام للشعب وإبداء الاحترام له وتجديد التفويض الشعبي . ومهما بدا حجم المشاركين في الاحتجاج قياساً لعدد السكان (75 مليوناً)، فإنه عَكَس مشاركة واسعة ضمت أقصى اليسار واليمين، دون أن تكون النقابات بمعزل عما جرى، فضلاً عن المشاركة الواسعة لغير الحزبيين وغير المسيسين . هذه الصفة التمثيلية الواسعة لموجة الاحتجاجات كان ينبغي أن تستوقف أردوغان، فأياً كان حجم التفويض لحزب فائز، فإن الجمهور يمقت عادة انفراد حزب ما مهما كان كبيراً بمقاليد الأمور كلها، وهذا المقت ينمو شيئاً شيئاً على هيئة احتقان ولا يلبث أن ينفجر .

لقد لحق ضرر بيّن بصورة أردوغان، ليس فقط بسبب اندلاع الاحتجاجات، بل كذلك بسبب ردود فعله ذات المنحى السلطوي التي شيطنت موجة الاحتجاجات، وأنحت باللائمة على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى ما بدا من افتراق بينه وبين شريكه الحزبي والسياسي عبدالله غول في التعامل مع التطورات، وقد امتد هذا التباين إلى داخل الحكومة حين أعلن نائب رئيس الوزراء بولند أرينج أن مطالب المحتجين عادلة ومشروعة، ولم يجد أردوغان ما يرد به من تونس سوى أنه ماضٍ في مشروعه الذي أثار السخط . ومن المتوقع أن تتواصل هذه التفاعلات بصور شتى حتى إجراء الانتخابات المحلية في مارس/آذار ،2014 التي تتلوها انتخابات رئاسية . فإذا لم يحقق حزب العدالة والتنمية نتائج جيدة في المحليات، فإن فرص فوز أردوغان في انتخابات الرئاسة تصبح ضعيفة، وما كسبه الرجل في الاتفاق على وقف النار مع حزب العمال الكردستاني من اجتذاب للجمهور ذي الأصل الكردي، ها هو مهدد بفقدان أضعافه نتيجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي تطاله هو بالذات، وطريقة تعامله السلطوية معها .

يحكم حزب العدالة والتنمية البلاد منذ عشر سنوات، وقد حققت تركيا في عهده إنجازات داخلية كبيرة من أهمها رفع وصاية المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية والدستورية، وزيادة معدل النمو الاقتصادي، حتى باتت تركيا تحسب في المركز السادس أوروبياً متقدمة على عشرين دولة أوروبية، وما يستحق التنويه أن الديمقراطيات تشهد دورات تعاقب بين فرقاء الحياة السياسية، وفي بلد يمتلك تراثاً ديمقراطياً مشوباً بفساد النخب وبتدخلات العسكر وبالنزعة السلطوية فإن بقاء الحزب متصدراً يبدو أمراً مستبعداً بعض الشيء، وكذلك صمود بعض رموز هذا الحزب، وها هم نجوم آخرون يخطفون منذ الآن الأضواء التي فقدها أردوغان، فلنرقب مزيداً من التفاعلات الدالة خلال الأسابيع القليلة المقبلة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"