السلاح المتفلت في الولايات المتحدة

04:56 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

جاهد الرئيس أوباما لوضع حد لتفلت السلاح في الولايات المتحدة، لكن الفشل كان من نصيبه في مواجهة لوبي تجار السلاح النافذ. وكما في كل مرة بعد كل مجزرة يعود موضوع الأسلحة النارية إلى النقاش العام ليهدأ مجدداً من دون تحقيق أي تقدم عملي لجهة ضبط مبيعاته، ومراقبة عمليات المتاجرة به، وحمله، واستخدامه.
مقتلة لاس فيغاس في بداية الشهر الجاري هي الأكبر في التاريخ الأمريكي (59 قتيلاً و557 جريحاً). إنه «رقم قياسي حزين» كما وصفته الصحافة الأمريكية، لكنه رقم سيجري تخطيه في زمن ليس ببعيد، إذ إن «الرقم القياسي» السابق يعود إلى مايو/أيار 2016، عندما أدى هجوم على ملهى ليلي في أورلاندو إلى سقوط 49 ضحية.
ومنذ مجزرة المدرسة الابتدائية في سان هوك في نيوتاون بولاية كونيكتكت في ديسمبر/كانون الأول 2012 على يد الطالب آدم لانزا التي راح ضحيتها عشرون طفلاً وستة بالغين، راح النقاش حول بيع الأسلحة النارية يتراجع تدريجياً ويخفت صوت المطالبين بضبطه. حتى الرئيس أوباما، ورغم أن أغلبيته الديمقراطية كانت تسيطر على الكونجرس وقتها فإنه فشل في تعديل النظام التشريعي المتعلق ببيع الأسلحة على المستوى الفيدرالي.
من الواضح أن إدارة ترامب ليست معنية بهذا الموضوع. وزير العدل يفضل اللجوء إلى العقوبات لمواجهة الاستخدام الجرمي للأسلحة النارية، الذي يقتل ما معدله سبع أولاد يومياً في الولايات المتحدة. لكن ما هي العقوبات التي يمكن أن تردع من ينتحر بعد ارتكاب فعلته الجرمية، كما فعل سفاح لاس فيجاس ومعظم من سبقه في هذا الإجرام؟
أسوأ من ذلك فإن مجلس النواب الأمريكي، حيث الأغلبية جمهورية، يسعى إلى إقرار قوانين جديدة في هذا الخريف تضعف التشريعات المتعلقة بالأسلحة، وهي ضعيفة في الأصل. من هذه القوانين تسهيل بيع كواتم الصوت، وهو أمر سوف يحد من قدرة رجال الأمن على تحديد موقع مطلق النار، ما يعني تزايداً مطرداً في عدد الضحايا. والقانون الثاني المتوقع صدوره يسمح بحمل السلاح، شريطة تخبئته، في الولايات التي لا تسمح بحمل السلاح، مثل كاليفورنيا.
وبحسب منظمة «جن فايولنس اركايد» وقع منذ بداية العام الجاري 47 ألف حادث إطلاق نار أدى إلى مقتل 11650 شخصاً (ما عدا المنتحرين) وجرح 23717 آخرين، ومن هذه الحوادث 273 عملية إطلاق نار كبيرة أودى كل منها بأكثر من أربعة قتلى. وهذا يعني أن عملية إطلاق نار كبيرة تحدث في كل يوم، والأرقام تذهب في اتجاه تصاعدي.
وفيما يتخطى الأرقام، فإن مقتلة لاس فيجاس أعادت إنتاج النقاش نفسه الذي بات «طقساً» من الطقوس يتكرر، كما تقول وكالة رويترز. فمن جهة الجمهوريين دعوات إلى «الصلاة والتأمل»، ومن جهة الديمقراطيين دعوات غير مجدية لرقابة أكثر جدية على مبيعات الأسلحة. كذلك كما في كل مرة عندما لا يتعلق الأمر ب«الإرهاب الإسلامي» يوصف المجرم بأنه «مختل عقلياً»، أو «يعاني اضطرابات نفسية»، وما شابه. لكن هذه ليست على ما يبدو حالة ستيفن جريك بادوك سفاح فيجاس وهو متقاعد (64 سنة) ناجح في حياته وأعماله. فما الذي دفعه إلى وضع 23 سلاحاً مختلفاً مع مئات الطلقات النارية في غرفته في الفندق قبل أن يرتكب فعلته الشنيعة؟
وقد لاحظ أحد الصحفيين أنه منذ اعتلاء ترامب السلطة قتل كثير من الأمريكيين في اعتداءات نفذها «رجال بيض لا علاقة لهم البتة بالإسلام».
الرئيس ترامب ندد ب«الشر المطلق» الذي تمثله مقتلة لاس فيجاس، لكنه أردف بالقول إن «الوقت ليس للسياسة»، داعياً الأمريكيين إلى «الوحدة بالتأمل والصلاة» من دون أن يتفوه بكلمة عن ضبط تجارة الأسلحة، بل قال إنه سيتكلم عن التشريعات المتعلقة بالأسلحة «في الوقت المناسب». وكما هو معروف فإن ترامب يؤيد مثل هذه التجارة كما ظهر في حملته الانتخابية التي ساهم لوبي الأسلحة بتمويلها بمبلغ ثلاثين ملايين دولار. وقد سبق له أن علق على هجمات باريس الارهابية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بالقول «لو كان هؤلاء ( الضحايا) يحملون السلاح، أو كان لهم الحق في حمله لكان الوضع مختلف جداً جداً». وبحسب الإحصاءات الصحفية فان 86% من النواب الجمهوريين و3% من الديمقراطيين تلقوا هبات، في العام 2016، من هذا اللوبي.
هناك نحو 300 مليون قطعة سلاح بين أيدي الناس في الولايات المتحدة. وكل ولاية لها قانونها الخاص في مجال تجارة وحمل الأسلحة، إضافة إلى القانون الفيدرالي. وكان «الآباء المؤسسون» أدخلوا في التعديل الثاني للدستور الأمريكي، في 15 ديسمبر/كانون الأول 1791 «حق كل شخص بحيازة وحمل السلاح» «لأن تشكيل ميليشيا منظمة جداً أمر ضروري لأمن الدولة الحرة». وقد اختلفت الولايات في ما بينها على تفسير هذه المادة وتطبيقها فمنها من تدافع بشدة عن هذا «الحق الأساسي» ومنها من تعتبر أن الزمن قد عفا عليه ومنها من تطبقه بشكل محدود.
من الناحية الاقتصادية يكلف هذا العنف ثلاثة مليارات دولار سنوياً (فاتورة استشفاء المصابين) وتزيد تكلفته على الاقتصاد الوطني عن 45 مليار دولار سنوياً.
السلاح المتفلت في الولايات المتحدة يكلفها أمنياً وبشرياً واقتصادياً، لكن لا يهم طالما أن للوبي السلاح، الذي تأسس في العام 1871، نفوذاً على من ينتخبهم الشعب لحمايته والسهر على أمنه وازدهاره. إنه بالفعل مثال صارخ على نفوذ اللوبيات وجماعات الضغط في أقوى دولة في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"