السودان بين رهانات الأمن والديمقراطية

02:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.إدريس لكريني

على امتداد أشهر عدة خلال عامي 2018 و2019، شهد السودان احتجاجات واسعة شاركت فيها مختلف مكونات المجتمع، وبحضور وازن للمرأة والشباب، وهي تندرج كما هو الشأن بالنسبة للحالة الجزائرية، ضمن الموجة الثانية من الحراك الشعبي التي أسهمت في تأجيجها الكثير من العوامل، بدءاً بتنامي المعضلات الاجتماعية والاقتصادية، منذ انفصال الجنوب، وما رافق ذلك من تراجع كبير في إنتاج النفط.. وعدم نجاح الحكومة في بلورة مداخل استراتيجية كفيلة بتحقيق توازن اقتصادي.
وفي هذه الأجواء لم يخف الرئيس السابق عمر البشير، رغبته في ولاية رئاسية جديدة خلال انتخابات 2020، بالرغم من بقائه في السلطة لأكثر من ثلاثة عقود، وبحصيلة صادمة على مختلف الواجهات، وبالموازاة مع ذلك، كان تعامله مع المعارضة السياسية صارماً، يعكس الرغبة في تكريس نظام انفرادي.
انطلقت الاحتجاجات في بداية الأمر بمطالب اجتماعية واقتصادية، في عدد من المناطق السودانية، كرد فعل على تنامي معضلات الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار، قبل أن يتحول الأمر إلى شعارات سياسية، وصلت حد المطالبة بإسقاط النظام، فيما واكبت شبكات التواصل الاجتماعي وقنوات الإعلام الدولي هذا الحراك باهتمام كبير.
واستفاد المحتجّون من تجارب وهفوات الحراك، الذي شهدته المنطقة منذ عام 2011، على مستوى التنظيم وقيادة الاحتجاجات، والحرص على السلمية، والانفتاح على مختلف القوى داخل المجتمع (أحزاب سياسية ونقابات مهنية وطلاب..)، ما أعطى للحراك دينامية ملحوظة، عكسها انتشار التظاهرات على امتداد مناطق مختلفة من البلاد، وانخراط عدد من القوى المجتمعية مع تردي الأوضاع الاجتماعية بالبلاد، وتنامي الاستياء من نظام البشير، الذي شهدت فترة حكمه الكثير من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والحروب التي أفضت في جانب منها إلى انفصال الجنوب، الذي يحتضن إمكانيات نفطية مهمة.
ومع تصاعد الاحتجاجات وتمددها، ومواكبة تطوراتها دولياً، ورغبة في امتصاص الغضب المتنامي للجماهير، قام الجيش بإطاحة النظام الحاكم؛ حيث أعلن عن اعتقال البشير، والبدء في فترة انتقالية تمتد لسنتين مع فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وحل المجلس الوطني ومجالس الولايات، وتشكيل مجلس عسكري لتدبير المرحلة. وبالرغم من التغيير الذي طال رئاسة المجلس وخطابها، إلا التفاوض بين هذا الأخير، وعدد من القوى السياسية والمهنية في البلاد، لم يفض بعد إلى اتفاق واضح، بشأن رئاسة المجلس السيادي والنسب التمثيلية بداخله بين المدنيين والعسكريين.
وطرحت المؤسسة العسكرية، كما في الجزائر نفسها كبديل، غير أن بيانها لم يلق قبولاً لدى عدد من القوى، التي رأت في مضامينه امتداداً لسياسات وتوجهات البشير.
ودعت قوى الحرية والتغيير بالسودان، إلى عصيان مدني عام، للمطالبة بوضع السلطة في أيدي المدنيين، ما يعكس أزمة ثقة بين الجانبين.
وما زال الغموض يكتنف مستقبل السودان، بصدد مدة المرحلة الانتقالية، وما إذا كان الأمر سيسمح ببلورة توافق وطني وحوار لتحقيق التحول بكلفة أقل، عبر فترة انتقالية معقولة يمكن للمؤسسة العسكرية أن تلعب فيها دوراً مرحلياً، أم أن الأمر سيسمح بالالتفاف على الحراك، مع وجود قوى متأهبة للانقضاض، خصوصا أن جذور النظام السابق ما زالت ثابتة في الأرض.
ويتأرجح موقف القوى السودانية، بين مؤكد دور مرحلي للمؤسسة العسكرية لترتيب الفترة الانتقالية بالنظر إلى تعقد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ومن يرفض أي دور لهذه المؤسسة بالنظر إلى التراكمات الماضية.
ويبقى التوافق بشأن تشكيلة المجلس السيادي وتوازنها، بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية والمدنية أمراً أساسياً، لتدبير مرحلة لا تخلو من تحديات وصعوبات، في إطار من الثقة، بصورة تدعم القطيعة مع تراكمات الماضي التي كانت كلفتها خطرة بالنسبة للسودان، وتسمح بإرساء تدابير ناجعة لتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية نزيهة، في إطار من المسؤولية والحكامة.
لا شك في أن كل القوى السودانية، بما فيها النخب التقليدية والجيش، وانطلاقاً مما تشهده الكثير من دول الحراك كسوريا واليمن وليبيا.. واعون بحجم التحديات التي تحيط بالبلاد على كل الواجهات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فالدخول في سياسات شد الحبل، وعدم بلورة مداخل استراتيجية لتجاوز الأوضاع الراهنة، ستكون تداعياتها مكلفة للجميع ولهذا البلد العربي الذي يحتضن إمكانات طبيعية، وطاقات بشرية قادرة على تحويل الأزمة إلى فرص.
إن التأخر أو التردد في إرساء توافقات داخلية، تدعم الحسم مع اختلالات الماضي، وتنحو إلى إرساء دولة مدنية تتسع لكل مكوناتها الاجتماعية وبأطيافها المختلفة، سيفرغ الحراك من أهميته، ويتيح الفرص لتهافت إقليمي ودولي، يمكن أن تتحول معه السودان إلى دولة فاشلة، وجاذبة للجماعات الإرهابية، ما سيعقد الأوضاع أكثر في المنطقة برمتها.
بين الموجة الأولى «للحراك العربي» التي بدا الإسلاميون فيه كمستفيد وحيد، من حيث الولوج إلى السلطة، يبدو أن الموجة الثانية للحراك، والذي تجسّده تجربتي السودان والجزائر، هي عسكرية بامتياز، مع بروز الجيش كفاعل قوي لتدبير ما بعد الحراك.. وبين هذا وذاك، يظل سؤال الدولة المدنية في المنطقة قائماً إلى أجل غير مسمى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"