السياسة الدولية بين الذعر والجنون

02:50 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

تشهد السياسة الدولية ومعها كل الكرة الأرضية، من أقصى غربها إلى أقاصي شرقها، تراجعاً كبيراً للتوازنات الكبرى التي كانت تحكم العلاقات بين الدول الكبرى والصغرى في القارات الخمس منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، وبات التنبؤ بمصير التحوّلات الكبرى أمراً صعباً، بل ومستحيلاً في الكثير من جوانبه نتيجة للمجاهل الكثيرة التي تميز الاستراتيجيات المتعارضة للدول، والتطلعات المتضاربة للمجتمعات، والشعوب. لقد تغيّرت أشياء كثيرة، وحدثت تقلبات وثورات على مستوى الأنساق التقنية والمعلوماتية والسياسية والمجتمعية، وأصبح العالم يبحر في أجواء عاصفة وغيوم ملبدة، في ظل ضبابية الرؤيا وصعوبة استشراف التغيرات والانقلابات الفجائية التي تحدث بوتيرة متقاربة، تجعل القدرة على مواجهتها صعبة، بل وخطيرة في أغلب الأحايين.
ويذهب الباحث طوماس جومار، إلى أن العالم يعرف في المرحلة الراهنة تخبطاً في مسارات تحركه، فهناك إلغاء للاتفاقيات على مستويات متعددة محلياً، وإقليمياً، ودولياً، وتحالفات هشة، وغير آمنة، وهناك ضعف وتراجع للديمقراطيات الليبرالية التي كانت تتحكم في بوصلة التحولات السياسية الدولية، وانقلاب وانتقال للمعطيات ولخانات القوة الجيو-اقتصادية نحو الشرق، إضافة إلى تهديدات قوية وانتشار غير مسبوق للشعبوية، وأخطار بيئية كبيرة تهدد التوازنات الأساسية لكل الكائنات الحية، وانتشار لسياسة التغريدات التي تقوِّض قواعد الدبلوماسية الدولية والعلاقات ما بين الدول.. عناصر كثيرة تؤكد في مجملها أن الإنسان لم يعد قادراً على السيطرة على العالم الذي يعيش فيه.
وتخلق التحولات الكبرى وغير المسبوقة التي تحدث على مستوى موازين القوى الدولية تخبطاً كبيراً على مستوى العلاقات بين القوى الكبرى فيما بينها، وبينها وبين القوى المحلية والإقليمية، وتجعل القوى الإقليمية تنفرد بتحديد أجنداتها الخاصة في استقلالية شبه تامة عن القوى التقليدية الكبرى، الأمر الذي يجعل الصراع ما بين كل الأطراف ينفلت من عقاله ويتخذ مسارات شديدة الخطورة تتميّز باندفاعات مجنونة نحو المواجهة، ويولِّد كل ذلك خوفاً شديداً في أوساط الرأي العام الدولي بشأن مستقبل الأمن والاستقرار في كل ربوع الكرة الأرضية.
وتعود هذه الاندفاعات المجنونة إلى جملة من الأسباب من أهمها، الصعود الكبير، وربما غير المتوقع للصين كقوة كبرى ورائدة في مجالات عدة واستراتيجية مثل المعلوماتية، والذكاء الاصطناعي، وتراجع مرتبة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة ومحتكرة لما يسمى بالأحادية القطبية الموروثة عن مرحلة التسعينات من القرن الماضي، وتفكك أوروبا بوصفها قوة غربية بديلة ومساندة في اللحظة نفسها للهيمنة الأمريكية، لاسيما بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود التيارات القومية والشعبوية التي باتت تؤثر بشكل واضح في العلاقات ما بين العديد من الدول الكبرى المؤسِّسة للاتحاد مثل فرنسا وإيطاليا.
وهناك، فضلاً عن كل ذلك، أسباب أخرى لا تقل أهمية مثل العودة الكبيرة لروسيا على مستوى صدارة المشهد العالمي نتيجة لقدرتها على إحراج واشنطن في الكثير من المجالات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، لاسيما العسكرية منها، بالرغم من تواضع قدراتها الاقتصادية، مقارنة بالعملاقين الأمريكي والصيني، والتحديات العالمية المرتبطة بملفات الطاقة والبيئة، والتحولات الكبرى في نمط الحروب وأشكال المواجهة بين القوى العالمية، إضافة إلى التوظيف المتصاعد لسلاح العقوبات الاقتصادية على مستوى العلاقات الدولية.
ولا شك في أن العالم يتجه، تأسيساً على كل ما تقدم، إلى مزيد من المواجهة نظراً لتعدد الرهانات وتضاربها بين مختلف الفاعلين الرئيسيين على مستوى مسرح السياسة العالمية، وبخاصة مع تعدد جبهات المواجهة وفضاءات الصراع، وتزايد مخاطر التصعيد في مناطق دولية حساسة، مثل قوس الأزمة والبحر الأبيض المتوسط، وشرق أوروبا، وبحر الصين، وأمريكا اللاتينية.. إلخ. ويتطلب منا كل ذلك أن نتتبع مسارات الأحداث على مختلف الجبهات في عالم بات محصوراً ومحدداً ومسيّجاً أكثر من أي وقت مضى، وأكثر ارتباطًا وتلاحماً من الناحية المعرفية والمعلوماتية، وأصبحت نقاط التعاون من جهة، والمواجهة من جهة أخرى متداخلتين، نتيجة للعولمة الثقافية والاقتصادية التي عدّلت بشكل لافت من توزيع وتقاسم مصادر الثروة على مستوى الكرة الأرضية.
ويمكننا أن نستنتج مع نهاية هذه المقاربة، أن العالم مطالب في هذه المرحلة التاريخية الحساسة والمفصلية، بترك أوهامه وأحلامه غير الواقعية، وبالتصدي لحقائق المرحلة وبديهيات العصر بتبصر ورجاحة عقل، من أجل وقف جنون المواجهة الذي يولِّد ذعراً كبيراً بين الأفراد الذين لا يفهمون بشكل واضح ما يحدث لهم من تغيّرات وتحولات مأساوية تقلب حياتهم رأساً على عقب في أكثر مناطق العالم بعداً وانعزالاً عن الحواضر الكبرى، وعن معطيات العصر ومنجزات الحضارة التقنية التي تحطم الخصوصيات، وتلغي التمايزات، وتزيد من شراهة وجشع الإنسان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"