السياسة في قفص الاتهام

05:00 صباحا
قراءة 3 دقائق
عاصم عبد الخالق

قبل نحو 25 قرناً أطلق الحكيم الصيني كونفوشيوس، مقولته الخالدة «السياسة بلا أخلاق جريمة». ومنذ ذلك الوقت صار السياسي متهماً، وباتت السياسة مهنة سيئة السمعة. وفي هجاء السياسيين أفاض الكتّاب والمفكرون، وسال مداد كلماتهم أنهاراً.
ولم يبالغ تشرشل عندما استوقفته كلمات على قبر رجل تقول «هنا يرقد السياسي النزيه..»، وعلق الزعيم البريطاني الشهير بقوله إنها المرة الأولى التي يرى فيها رجلين يدفنان في قبر واحد. والمعنى أن العمل السياسي والنزاهة لا يجتمعان، وأن المرء إما أن يكون سياسياً وإما نزيهاً.
وانطلاقاً من هذا الانطباع أجرى موقع «كونفيرزيشن» الأمريكي تجربة فريدة بتحليل سلوك السياسيين قياساً على قواعد تحليل سلوك المجرمين التي يستخدمها علماء الجريمة، وليس خبراء السياسة.
وتصدى للقيام بالتجربة خبير علم الجريمة روث ميكي، الأستاذ بجامعة مونتفورت الذي كان عليه أن يختار سياسياً كنموذج لتحليل سلوك المتهم، ثم قضية باعتبارها المحاكي الموضوعي للجريمة، لكي يثبت في النهاية تطابق سلوك السياسيين والمجرمين عند محاولتهم تبرير تصرفاتهم، والإفلات من الإدانة.
لم تطل حيرة ميكي في البحث عن نموذج من السياسيين، فوقع اختياره سريعاً على الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب. أما الجريمة، أو القضية فكانت التغييرات المناخية. وجاء اختياره للقضية منطقياًً، فهي من ناحية تتعلق بالبشرية كلها، وليست شأناً أمريكياً فقط. ومن ناحية أخرى فإن مواقف ترامب المتطرفة تجاهها توفر نموذجاً كلاسيكياً جيداً للتحليل الجنائي.
يتبنى ترامب توجهاً يصطدم مع تقديرات العلماء الذين يؤكدون أن التغييرات المناخية ذات تأثير كارثي، وأن ارتفاع درجات الحرارة خلال العقود الأخيرة يتم بمعدل لم يتحقق خلال الألفي سنة الماضية. ويهدد هذا التغيير حياة الملايين بسبب ما يحدثه من أمراض، وفيضانات، وجفاف، وعواصف، ونقص في المحاصيل.
ويرفض ترامب الاعتراف بمسؤولية بلاده عن هذه الكارثة، وهي تهمة ثابتة بحكم نشاطها الصناعي الضخم الملوث للبيئة. ولترامب سجل حافل في معاندة الحقيقية، وإنكارها. وفعل ما هو أسوا بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وتقويض الإجراءات التي فرضها سلفه باراك أوباما، لحماية البيئة.
ويعتبر عالم الجريمة، روث ميكي، أن مواقف ترامب توفر أرضية كافية للتحليل الجنائي باستخدام مقياس يعرفه العلماء باسم «تكتيكات الحيادية»، تم تطويره منذ 1964 ويتكون من خمسة أنماط سلوكية يتبعها المتهم عادة، كوسائل دفاع خلال التحقيق، أو المحاكمة، للإفلات من الإدانة، وهي على النحو التالي:
أولاً: إنكار المسؤولية: يلجأ المتهم لإنكار التهمة، وهو ما يفعله ترامب حيث يشكك في حدوث تغييرات مناخية من الأصل. وإذا حدثت فهي ليست نتيجة النشاط البشري الصناعي بالضرورة.
ثانياً: إنكار وقوع أضرار: يؤكد المتهم أن الجريمة المنسوبة إليه لم تسبب أذى لأحد، أو بلا أضرار جسيمة. تماماً كما يفعل ترامب بإنكار حدوث كارثة إنسانية واقتصادية بسبب تغييرات الطقس.
ثالثاً: إنكار وجود ضحايا: لا يفعل ترامب غير ذلك، وأكبر مثال هو رفضه الاعتراف بأن سياسته حول البيئة ونقص التمويل وراء مأساة إعصار بورتوريكو عام 2017 الذي راح ضحيته آلاف القتلى والمصابين.
رابعاً: إدانة من يلقون باللوم عليه: يحاول المتهم عادة توجيه اللوم إلى النظام القضائي، أو الأمني، أو الشكوى من التحامل عليه. والمحاكي لرجال القضاء والشرطة في حالة ترامب هم العلماء الذين يتهمهم بالمبالغة في تقدير تأثيرات التغييرات المناخية، وعرض القضية بصورة سيئة. وفي أحيان أخرى يتهم المنظمات الحكومية المعنية بأنها جزء من الدولة العميقة التي تحاربه.
خامساً: إلقاء المسؤولية على جهات أخرى: للتهرب من الإدانة يبحث المتهم عن شركاء، أو فاعلين آخرين. ويتصرف ترامب بالطريقة نفسها، حيث يجد في الصين كبش فداء مناسباً، ويحمّلها إما مسؤولية ارتفاع حرارة الأرض أو اختلاق الفكرة من الأساس وإلصاق التهمة ببلاده للإضرار بصناعتها.
أخيراً، فإن الاتهامات المضادة التي يوزعها ترامب على مختلف الأطراف، بمن فيها العلماء، ليست استثناء، ففي السياسة كما يؤكد نابليون بونابرت لا تشكل الأمور غير المنطقية عقبة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"