السياسة و«صناعة الخوف»

02:50 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

أثبتت عدة دراسات علمية بأن الفترات التي يسودها القلق الاجتماعي تزداد فيها النزعة العامة إلى الخضوع للسلطة، كما يزداد عدد الأشخاص الجاهزين للتخلي عن حرياتهم في مقابل الشعور بالأمن الذي توفره السلطة الحاكمة. وتكشف قراءة الأرشيفات التي أفرج عنها في الولايات المتحدة بأنه في خلال الفترات التاريخية التي تتكاثر فيها التهديدات (كما في ثلاثينات القرن الماضي على سبيل المثال) تزداد التطلعات بين الناس إلى شخصية أوتوقراطية قوية في رأس السلطة، وذلك على عكس الفترات التاريخية التي تندر فيها التهديدات (عشرينات القرن العشرين على سبيل المثال ). وهكذا لم يكن من قبيل المصادفة أن ينتخب هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا في الثلاثينات عشية الحرب العالمية الثانية والتي كان هتلر أحد أبرز مفجريها وقادة عملياتها العسكرية التي أودت بحياة عشرات الملايين من البشر.
في مجال علم النفس الاجتماعي، أثبتت الدراسات بأن التهديدات سبب للأوتوقراطية في المجتمع وبأن الكنائس المتطرفة في الولايات المتحدة تشهد انتساب المزيد من المؤمنين إليها في الفترات التي تكثر فيها التهديدات، في حين أن الكنائس المعتدلة يزداد الانتماء إليها في الفترات التاريخية التي تندر فيها التهديدات.
هذه النزعة كثيراً ما يسعى للاستفادة منها السياسيون الديماجوجيون الذين فهموا جيداً بأن إشاعة المعلومات حول المخاطر التي تتهدد البلاد يمكن لها أن تصب في مصلحتهم. هناك كتاب تكلموا صراحة عما سموه «صناعة الخوف» من الجريمة بمعنى أن إشاعة الخوف من الجريمة بأنواعها (المافيا، فقدان الأمن، الإرهاب، الخ.) يجعل الناس يتطلّعون إلى من يقدم لهم الوعود ببسط الأمن والاستقرار وحماية أرواحهم وممتلكاتهم ولو كان حاكماً سلطوياً مستبداً أو حتى دكتاتوراً.
تفجيرات مركز التجارة العالمية في 11 سبتمبر 2001، فتحت المجال لكثير من الدراسات والأبحاث حول هذا الموضوع وبرهنت بأنه بعد هذا التاريخ احتلت المسألة الأمنية رأس قائمة الأولويات عند الأمريكيين ولو على حساب الحرية والديمقراطية والرفاه الاجتماعي. وفي الفترة ما بين فبراير/ شباط 2002، ومايو/ أيار 2004، التي نشر فيها الفريق الحكومي رسائل تحتوي على تحذيرات من عمليات إرهابية وشيكة، زاد بوضوح دعم الرأي العام للرئيس بوش الابن وللقوانين التي أصدرها في سياق مكافحة الإرهاب والتي تحد كثيراً من الحريات العامة. وقد تبين بأن ردود الفعل النابعة من الخوف تشكل تهديداً للاستقرار الاجتماعي أكثر من التفجيرات نفسها.
والمفارقة، أن المسؤولين السياسيين الذين يرفضون الدخول في مثل استراتيجية الرعب هذه، يتعرضون لانتقادات من قبل خصومهم، والتوجه بموضوعية إلى الرأي العام لعرض التهديدات من دون تهويل ومبالغة، يحمل مخاطر كثيرة على شعبية هؤلاء السياسيين. وكما يلاحظ الأستاذ في جامعة زيوريخ برونو فري، المتخصص بالإرهاب فإن سياسة الردع القائمة على القوة يُنظر إليها على أنها من علامات الشجاعة والقوة والشرف، الأمر الذي يدفع الديماجوجيين إلى اللجوء إليها.
هذا في مجال «إدارة الرعب»، أما في المضمار الاجتماعي- السياسي، فإن نتائج الدراسات تشي بأن لحظات التفكير بالموت، تزيد المشاعر القومية لدى الإنسان وتجعله أكثر عدائية حيال الغرباء والأجانب. والأشخاص الذين لديهم نزعة نحو السياسات الأوتوقراطية، عندما يفكرون بموتهم أو يخشونه، فإنهم يعانون من عدم استقرار أو أمن عاطفي، الأمر الذي يجعلهم فرائس سهلة للديماجوجيا السياسية.
لقد انتشر موضوع الإرهاب في صفوف الباحثين الغربيين في مجال الموت والتفكير فيه. فمن المؤكد بأنه حين تضرب التفجيرات الإرهابية بلداً ما، يجد سكانه أنفسهم في منظور الموت والتفكير فيه والخوف منه. والحال هذه فإن الرغبة بالانتقام والالتزام البطولي هي رد فعل نموذجي.ويقوم السياسيون عندئذ برعاية ثقافة الموت وتوجيهها لمصلحتهم. بعد تفجيرات 11 سبتمبر استخدمت إدارة جورج بوش هذه الرغبة المزدوجة لمصلحتها بشكل لافت.
وبحسب الباحثين النفسيين في مجال السياسة والخوف، فإن «الخوف هو عدو الحرية». كل فترة تولد هواجسها ومخاوفها: اليوم الإرهاب وبالأمس كانت أمطار الأسيد وسباق التسلح أو أيضاً الانفجار السكاني والجوع الذي من الممكن أن ينتج عنه (في سبعينات القرن الماضي انتشر هذا النوع من الدراسات والتوقعات في العالم ورافقه فوبيا من الانفجار السكاني في العالم الثالث) مع ما يرافق ذلك من علاجات رهيبة يقدمها الخبراء.
إذا أمعنا النظر قليلاً في مضمون برامج الحملات الانتخابية في بعض الدول الغربية، لوجدنا بأن معظمها يقوم على صناعة الخوف واستغلاله، الخوف من المهاجرين أو الإرهاب أو البطالة أو الفقر أو التغيرات المناخية الخ.. ويتسابق المرشحون على تقديم الحلول لهذه الآفات وهم يدركون تماماً بأنهم إنما يبيعون الهواء. «إسرائيل» بلد بحاله لم تكن أواصره الاجتماعية المتنابذة لتتلاحم لولا الخوف، الخوف من الفلسطينيين والعرب والمستقبل والمجهول، «صناعة الخوف» امتهنها كل حكام هذا البلد الغريب، وبفضل الخوف يستمر نتنياهو والفريق المتطرف في السلطة منذ سنوات طويلة وإلى سنوات أخرى عديدة على الأرجح. وفي دول كثيرة، في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالمين العربي والإسلامي، يستمر أوتوقراطيون مستبدون في السلطة بفضل امتهانهم صناعة الخوف، الخوف من الحرب أو عدم الاستقرار والفوضى وغيرها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"