السياسة واللغات في الوطن العربي

03:42 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

طُرِحت المسألة اللغوية في الوطن العربي في الحقبة المعاصرة بصيغ متعددة، خاصة مع تأسيس الدولة الوطنية في منتصف القرن الماضي. وقد ناقشت النخب الثقافية المشاكل المتعلقة باللسان من زوايا مختلفة، من أبرزها علاقة العاميات المحلية بالعربية الفصحى، وموضوع كتابة اللسان العربي بالحرف اللاتيني، كما طُرِح موضوع مقام ووضعية اللغة الأجنبية الأولى في المشرق والمغرب، وإشكالية نقل المعارف العلمية المعاصرة إلى اللسان العربي، إضافة إلى معضلة التعامل مع الألسنة غير العربية في سياق النسق اللساني العربي العام.
وإذا كانت هذه المسائل التي أثيرت على المستويين السياسي والثقافي، تعبِّر في مجملها عن وقائع لسانية وثقافية أفرزها التطوّر الطبيعي للمجتمعات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، لاسيما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في العشرينات من القرن الماضي، فإن جانباً من الهواجس اللسانية في الفضاء العربي الراهن، ناتج عن السياسة اللغوية التي طبقتها الإدارات الاستعمارية في عدد من الدول العربية، والتي أدت إلى نشوب صراع غير مبرّر بين اللسان العربي الجامع وبين الألسنة المحلية التي سبق لها أن تعايشت في جوٍّ من الانسجام والتوافق مع اللسان العربي لقرون طويلة من الزمن.
من الواضح أن التحوّلات التي عايشتها المجتمعات العربية خلال العقود الماضية، قادت إلى التخلي عن كثير من الأطروحات اللسانية التي فقدت مشروعيتها الفكرية والمجتمعية على غرار استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، واعتماد العاميات المحلية في التدريس كبديل عن العربية الفصحى. ويمكننا أن نزعم أن النقاشات التي تُثار هنا وهناك بشأن هذه المواضيع، تعتبر هامشية في معظمها ولا يتم أخذها على محمل الجد من طرف الأغلبية الساحقة من النخب الثقافية والسياسية.
أما الضجة التي أثيرت مؤخراً في المملكة المغربية بشأن التدريس بلسان الأمومة (العامية المحلية) في المراحل الأولى من التعليم، فمن غير المتوقع أن يكون لها تأثير، حتى وإن كان بعض المفكرين المغاربة وفي طليعتهم عبدالله العروي، لا يعترضون على مبدأ الاستعانة بالعامية لتبسيط المعارف المعقدة للأطفال الصغار، ولكن دون المساس بالبرامج الدراسية المكتوبة بالفصحى.
بيد أنه في مقابل التراجع المسجّل على مستوى بعض الأطروحات اللسانية غير الجدية وغير الواقعية، هناك تصاعد مفاجئ في النقاش المتعلق بلغة تدريس المعارف العلمية في المؤسسات التعليمية وفي الجامعات المتخصصة. فإذا كان المشرق العربي قد حسم خياره منذ عقود بشأن اللغة الأجنبية الأولى في المؤسسات التعليمية من خلال اعتماد اللغة الإنجليزية في الخمسينات من القرن العشرين؛ أي قبل أن تبسُط الإنجليزية هيمنتها المطلقة على سوق اللغات، فإن دول المغرب العربي باستثناء ليبيا مازالت تفضل اعتماد الفرنسية في التدريس وخاصة في الدراسات العليا في الجامعات، لكن ذلك لم يمنع بعض الأطراف في المغرب والجزائر من المطالبة باستبدال الفرنسية بالإنجليزية في الجامعات، حيث أطلقت وزارة التعليم العالي في الجزائر استفتاء يتعلق بإمكانية اعتماد الإنجليزية عوضاً عن الفرنسية في التدريس بالكليات والمعاهد العليا.
وفضلاً عن ذلك، فإنه بعد مرور سنوات على تعريب المواد العلمية في المراحل الإعدادية والثانوية، تذهب بعض الأوساط إلى القول إن تراجع مستوى التحصيل العلمي في الجامعات في دول مثل المغرب والجزائر، ناجم عن عجز الكثير من الطلاب عن متابعة التعليم الجامعي باللغة الفرنسية نتيجة لحصولهم على تكوين قاعدي باللغة العربية طوال مراحل التعليم الأولى، ويقترحون من أجل تجاوز هذه الوضعية، أن يتم التخلي عن سياسة التعريب واعتماد الفرنسية كلغة لتدريس المواد العلمية.
ونستطيع أن نشير في هذه العجالة إلى أن التداخل الحاصل بين السياسة والمسائل اللسانية، يبدو واضحاً إلى أبعد الحدود على مستوى الصراع بين العربية والألسن المحلية في عدد من الدول العربية الكبرى، مثل سوريا والعراق، في ما يتعلق باللسان الكردي، ومثل الجزائر والمغرب وبدرجة أقل حدة في ليبيا، في ما يتعلق باللسان الأمازيغي، خاصة أن النقاش لا يطرح نفسه على المستوى الفردي ولكن على المستوى المجتمعي، من منطلق أن التعدد اللساني لا يثير مشاكل جدية على مستوى مجتمع يتكلم أفراده ألسنة متعددة، ولكنه يشكل تحدياً حقيقياً عند وجود مجموعات لسانية أحادية اللغة، يصعب على قسم منها التواصل مع الطرف الآخر بلسانه المحلي.
كما أن التعدد اللساني الذي جرى تضخيمه في العقود الأخيرة من أجل تفتيت الدولة الوطنية في مناطق عديدة من الوطن العربي، مرشح الآن إلى الانتقال من تمايز لساني تحتضنه العربية الفصحى قياساً على ما ظل سائداً في مختلف مراحل التاريخ العربي والإسلامي إلى تمايز عرقي يستوجب إقامة فصل مؤسساتي وجغرافي داخل الدولة الواحدة.
ويمثل الوضع في العراق والجزائر أبرز الأمثلة التي يقود إليها مثل هذا التعدد اللساني القائم على التصعيد والمواجهة، حيث سعى أكراد العراق إلى الانفصال من خلال تنظيم استفتاء لتقرير المصير، ويحاول بعض المتطرفين في منطقة القبائل في الجزائر، الحصول على دعم فرنسي و«إسرائيلي» من أجل تأسيس كيان مستقل اعتماداً على التحالف التاريخي القائم حالياً بين النزعتين البربرية والفرانكفونية في المغرب العربي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"