السياسة والمسألة الأخلاقية

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

ينطوي كلّ فعل سياسي على تبريره الأخلاقي، مستنداً بذلك إلى منظومة قيمية محدّدة، تمنح الفعل السياسي شرعيته، أو ما يمكن أن نسميه كانطياً (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي إيمانويل كانط) بالأخلاق السياسية؛ حيث إن الفعل السياسي ينبغي بالضرورة أن يكون فعلاً أخلاقياً، فقد ميّز كانط بين عالم الأخلاق، الذي هو عالم الحرية ومجالها، وعالم الضرورة الخارجية والسببية الطبيعية، وبناءً عليه، فإنه لا يمكن القول بالقطيعة بين السياسة والأخلاق، حتى لو كانت السياسة تعد فعلاً براجماتياً نفعياً صِرفاً.
الفعل السياسي بكونه يعد فعلاً قائماً في حقل الاجتماع، ويتوجّه إلى الجماعة، فهو محكوم بالمنظومة القيمية للجماعة نفسها؛ وهي منظومة قيمية تتداخل فيها عناصر عدّة؛ مثل: الدين والتاريخ المشترك والثقافة والأعراف وغيرها من المشتركات، وهذا الفعل، على الرغم من أنه فعل غائي، مُحدّد الأهداف، فإنه، وفي سياق الاجتماع البشري، يُطلب منه تحقيق مبادئ الإجماع المشترك للجماعة نفسها، أي الاستناد إلى منظومتها القيمية/الأخلاقية.
بهذا المعنى فإن الفعل السياسي هو فعل أخلاقي بالضرورة؛ لكن هذه المعادلة المثالية، أي تساوي السياسة بالأخلاق، فهي حين خروجها إلى حيّز التناقضات الواقعية، أي حيّز تضارب المصالح، فإنها تخضع لكمّ كبير من التكيّفات، خصوصاً لجهة التناقض بين الغايات والوسائل، فالغايات تنتمي إلى عالم «ما يجب أن يكون»، بينما ينتمي الفعل السياسي إلى «ما يمكن أن يكون»، وبين العالمين ثمة شروط مختلفة، تنتمي إلى عالم الممارسة السياسية أكثر من كونها تنتمي إلى عالم المثل واليوتوبيا.
إن تحقيق السلام العالمي، على سبيل المثال لا الحصر، والذي خَصّص له كانط كتاباً بعنوان: «نحو سلام دائم-محاولة فلسفية»، وأصبح لاحقاً يعد جزءاً لا يتجزأ من المطالب العالمية، الراسخة في مواثيق الأمم المتحدة، إلا أنه يبقى مسألة عامّة، وفي الكثير من الأحيان تبريرية، خصوصاً عندما تتعارض مع مصالح الدول الكبرى.
لقد تبنّت الأمم المتحدة مبدأ «سيادة الدول»، والذي يقرّ عدم السماح لأي دولة بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، باعتبار أن هذا المبدأ هو مبدأ أخلاقي، يساوي بين الدول الضعيفة والدول القوية؛ لكننا لا نجد في سياق الممارسة العالمية للسياسة تطبيقاً فاعلاً لهذا المبدأ؛ بل نجد نقيضه؛ حيث إن الصراع العالمي على المصالح يتطّلب تدخل الدول الكبرى بالشؤون الداخلية للدول الضعيفة، كما أن «مبدأ سيادة الدول» يتحوّل إلى مبدأ حماية لبعض الحكومات التي تمارس القمع والاضطهاد لشعوبها، وهو ما يتنافى مع مواثيق الأمم المتحدة نفسها، والمؤسَّسة على منظومة أخلاقية حقوقية، تنشد حرية الأفراد والمجتمعات.
إن هدف الممارسة السياسية يتمثّل بتحقيق أهداف مباشرة وغير مباشرة، آنية ومستقبلية، تخدم المجموعة البشرية المعنية بتلك الممارسة السياسية؛ مثل: الأمن والسلام والعمل والحاجات المعيشية والتنمية، وغيرها من الحاجات الضرورية لحياة المجموعة البشرية؛ لكن تلك الممارسة السياسية مشروطة بالمرجعية الفكرية والأيديولوجية والأخلاقية للأطراف السياسية، ومشروطة بطبيعة الحكم في الدولة، وبالإمكانات المتوافرة.
يحفل تاريخ الفلسفة، والفكر السياسي، بأطروحات عدّة ومختلفة حول السياسة والمسألة الأخلاقية، كما أن كل اتجاه فكري حَدّد أهدافاً مختلفة له من الممارسة السياسية، مستنداً إلى منظومة قيمية، أو مؤسِّساً لمنظومة قيمية خاصّة به، انطلاقاً من الغايات التي حدّدها للممارسة السياسية، حتى إن بعض تلك المنظومات القيمية ترقى إلى مصاف اليوتوبيا؛ لكن كل تلك الاتجاهات تتفّق على أن مجال الممارسة السياسية هو العالم الوضعي، حتى لو تبنّت بعض القوى السياسية مرجعيات قيمية تنتمي إلى عالم العقائد غير الوضعية.
الحاجة إلى منظومة أخلاقية في الممارسة السياسية هي اعتراف بضرورة وجود سند أخلاقي، وإلا تحوّلت الممارسة السياسية إلى حالة من العبث والتغوّل؛ لكن في الوقت ذاته، فإن تاريخ الممارسة السياسية يكشف عن نسبية المنظومة الأخلاقية، وتبدّل المفاهيم الأخلاقية من عصر إلى آخر، فقد أتاحت التجربة الليبرالية/ الغربية طرح نموذج يجعل المنظومة الأخلاقية مسألة وضعية، دستورية، مُحدّدة المعالم والمرجعيات.
لكن، علينا الإقرار بأنه في الدول التي لم تعرف سياق التطور الليبرالي/ الغربي، ستبقى الممارسة السياسية (حكومات، أحزاب، تنظيمات سياسية - عسكرية) تستثمر في المسألة الأخلاقية، بطريقة غير أخلاقية، ولغايات سياسية محضة، لا علاقة لها بالمنظومة الأخلاقية التي تدّعيها كل الأطراف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"