السياسة والمصالح

03:45 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

ما من سياسةٍ إلاّ ومَبْناها على المصالح؛ فالمصلحة مبدأُ السياسة ووقودها الذي به تشتغل آلتُها، وهي في حكم العدم إنْ لم تكن مصلحة؛ إذْ كل سياسةٍ إنما هي تعبير عن مصلحة: قائمة أو مطلوبة، وسعيٌ إليها السعي الدائم. قد توجدُ المصلحة فتقترن بها السياسة، وتكون لها بمنزلة اللسان وأحياناً، بمنزلة الأسنان والأظافر؛ وقد لا توجد فتكون في جملة ما يُسْعَى إلى تحصيله. وهكذا تدور السياسة مع المصالح في دوائر ثلاث: في دائرة المرغوب؛ إذْ تتغيّا، هنا، غُنْمَ مصلحةٍ أو حيازتَها، وفي دائرة المحروص عليه؛ إذ تميل إلى صون مصلحة متحققة وتأمينها من مخاطر النّيل منها، ثم في دائرة المهجوس به؛ حيث تجنح السياسةُ - باستمرار - نحو تعظيم المصالح وتثميرها لا الوقوفَ المتواضِعَ عند المتحقِّق منها. وكلّما اتّسعت رقعةُ المصالح، اتّسع نطاقُ عملِ السياسة بالتبعة، وكلما ضاقت مساحتُها ضمُرت جغرافيّةُ السياسة وتواضعت مطالبُها. وإذْ تكون المصلحة من السياسة بهذه المثابة، تصبِح هي عينها مَن يؤسّس للسياسة مشروعيّتها، وتستكفي السياسةُ بهذه المشروعيّة عن أيّ نوعٍ آخر من المشروعيّة تستمدّه من خارج نطاقها كسياسة قائمة على المصلحة.
حين يُقال هذا -الذي هو اليوم من الألفبائيّات - قد يذهب الظن بالبعض إلى أنّ في هذا تعريفاً سلبياً للسياسة، أو أنّ السياسة مجرَّدة من أيّ مبدأ، أخلاقيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ، ما دام مبْناها على المصلحة. والحقُّ أنّ الظنّ هذا يخطئ إدراك معنى المصلحة والسياسة معاً ومعنى الاقتران الماهويّ بينهما. المصلحة المقصودة مصلحة عامّة، يقع إجماع الناس عليها (شعب، أمّة) لا مصلحة خاصّة بمن يدير الشأن السياسيّ. بناء الدولة، حماية السيادة الوطنية، نشر التعليم، الإصلاح السياسيّ والإداريّ، التنمية الاجتماعية، حِفظ السّلم المدنيّ...، في جملة تلك المصالح العامّة التي يجتمع عليها رأيُ الناس في المجتمع، وقد تجتمع عليها الإرادات أيضاً متى تأمنت فرص المشاركة في إدارة الشأن العامّ. وليس من سبيل إلى تحقيق المصالح العامّة هذه إلاّ من طريق السياسة. لذلك تكتسب السياسة شرعيتها من أدائها وظيفةَ ذلك التحقيق. يترتّب على ذلك أنّ المصلحة العامّة تكون من السياسة بمثابة المبدأ الذي تقوم عليه، وليس من مبدأ آخر غير هذا يزاحمه في تسويغ السياسة وشرعنَتها كفعالية اجتماعيّة أيّاً تكن درجةُ طهرانيّته.
لا تحتاج السياسة، إذن، إلى مبدأ دينيّ، مثلاً، أو مبدأ أخلاقي كي تقوم عليه وتَشْتَق منه شرعيتها؛ ذلك أنّ شرعيتها فيها وفي ما تؤدّيه من وظائف. فهي إذْ تنصرف إلى خدمة المشتَرَك الاجتماعيّ العامّ والجامع، تُحاسَب على ما أدّتْهُ أو لم تُؤَدّه في هذا الباب، أي تُحاسَب طبقاً لمعيار مطابَقَتها أو عدم مطابَقتها للمصلحة. إنّها، في النهاية، تكليفٌ مجتمعيّ، بشريّ، لا يُطلَب من الموكولين إليهم أمْرُهُ سوى أداؤُهُ على النحو المُرضي؛ باحترام الأمانة، التي هي تفويض من المجتمع، واحترام القوانين، التي هي تعبير عن إرادة المواطنين، على النحو الذي يحصُل معه حُسن الإنجاز، أي تحقُّقُ التطابق بين السياسة وموضوعها (المصلحة). يؤدّينا هذا التعريف للمصلحة ولحاجة هذه إلى السياسة إلى دحض الظنّ الذي يذهب - مثلما أومأنا - إلى أنّ اقتران السياسة بالمصلحة وقيامها عليها يجردها (أي السياسة) من أيّ أخلاق، ويُصَيِّرُها براغماتيّة (نفعيّة) لا تقيم اعتباراً لأيّ مبدأ. وإذا كان من الصحيح أنّ البراغماتيّة من مقوّمات السياسة -في العصر الحديث - فإنّ هذه ليست قدحيّة دائماً لأنّ مبناها، هي أيضاً، على تحقيق المصلحة. والأهمّ من ذلك أنّه إذا كانتِ السياسة تستغني عن كلّ معياريّة أخلاقيّة، فإنها تؤسِّس لنفسها، في الوقت عينِه، أخلاقيتها الخاصّة تماماً كما تؤسِّس الحربُ - وهي من السياسة -أخلاقيَّتَها الخاصّة ومواثيقها الأخلاقيّة على الرغم من أنها تخرق كلّ الأخلاق الإنسانيّة.
لا نعي، في مجتمعاتنا العربيّة وفي ثقافتنا السياسيّة، كثيراً، طبيعةَ السياسة واتّصالها بالمصالح اتّصالَ وجود، وكثيراً ما نجنح - عكس ذلك - نحو النظر إليها نظرةً أخلاقيّة، فتكون النتيجةُ إخطاءً في إدراك معناها. يصدمنا، مثلاً، سلوك معظم حكومات الدول الكبرى تجاه قضايانا التي تبدو لنا، عن حقٍّ، قضايا عادلة لا غبار عليها، والتي قد تكون كذلك أيضاً - أي عادلة - لدى شعوب تلك الدول. يصدمنا أنّها إذْ تتبجّح بمبادئ حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، والكرامة الإنسانيّة، واحترام السيادات...، وتُحاكِم دولاً وشعوباً باسمها وتُنزِل بها أقسى أنواع العقاب تدوس المبادئ هذه وتتجاهلها في أحايين كثيرة وكأنها ليست من معايير السياسة ولا من قواعدها الحاكمة؛ مثلما يحصل عند تناولها قضايانا. والجوهرُ هذا أنّ حكومات الدول تلك وسياساتها العليا محكومة ب - وتدور مع- المصلحة؛ أنَّى كانتِ المصلحة، فثمّة وجهتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"