السياسيون تخلّفوا

03:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
جميل مطر

سؤال مثير للقلق، هل حقاً ما زال هناك بين السياسيين من يعتقد أن مؤسسات الحكم والعمل السياسي المعروفة، مثل البرلمانات والأحزاب والنقابات والانتخابات والبيروقراطية الشاسعة، تتناسب واللحظة الراهنة في حياة معظم المجتمعات الإنسانية؟. فإن كانت حقاً تناسبها وإن كانت فعلاً ضرورية وإن كانت فعلاً ناجعة فكيف نفسر للناس، وبخاصة لبلايين الشبان في كافة أرجاء العالم، حال القلق المهيمنة على حياة الأغلبية العظمى من الشعوب، وكيف نفهم ثم نشرح ونبرر هذه الاحتجاجات الكثيرة سواء في دول الشمال كما في قارات الجنوب وفي الشرق كما في الغرب؟.
استعداداً لتنظيم ثم إجراء حوار موسّع، جرت حوارات محدودة المشاركة ومحدودة الأسئلة. سألنا عن ظروف نشأة المؤسسات والمفاهيم السياسية التي اخترنا العيش في ظلها وتلك التي فرضت نفسها علينا. المؤكد أنها لم تنشأ من فراغ ولا في فراغ. لم تنجبها ثقافة بعينها في لحظة بعينها وإنما تكونت ثم ارتقت أو تدهورت نتيجة عمليات تلاقح مستمرة عبر التاريخ بين مختلف الثقافات، ونتيجة تطورات في علاقات اقتصادية واجتماعية وسكانية ودينية. حدث، في مراحل تاريخية معروفة، أن استحال الانسجام بين مفاهيم ومؤسسات من ناحية ومجتمعات تغيرت من ناحية أخرى بدون أن يقع تغيير جوهري في طرف من طرفي هذه المعادلة أو في الطرفين معاً. أخذ التغيير الجوهري في بعض هذه الحالات طابع الثورة بسبب فشل جهود التدرج في تحقيق الانسجام المطلوب.
يحدث في الظروف العادية والتطورات البطيئة أن تتلاقي في سلام وهدوء، أمزجة ومصالح القوى المتململة في المجتمعات مع أمزجة ومصالح أنصار التغيير بين القائمين على إدارة المؤسسات وصياغة المفاهيم السياسية، فيقع التغيير بسلاسة ورضا الطرفين. ولكن في أحيان كثيرة سجّل التاريخ فجوات واسعة في فرص التقاء الطرفين ترجمت نفسها في مراحل قلق وتوترات اجتماعية انتهت غالباً بتغير جوهري في أسس العلاقة بينهما. رصدنا في لقاءات الحوار المبكرة، عدداً من التطورات والتغيرات على جانبي الحياة السياسية، في مرحلتها الراهنة تشير إلى أن مجتمعات غير قليلة العدد، سوف تواجه قريباً تحديات غير عادية وتجد نفسها مجبرة على تفضيل خيارات جوهرية على خيارات تقليدية بدت طويلاً وكأنها محسومة وأن لا أفضل منها. أعرض هنا بعض ما رصدته الحوارات المبكرة.
انحسر الدور الحقيقي للبرلمانات والمؤسسات الشبيهة في غالبية دول العالم. تدرج الانحسار شكلاً وسرعة وموضوعاً. بعضنا قضى وقتاً غير قليل من العامين الأخيرين يتابع عمل وأحياناً لا عمل مجلس العموم البريطاني خلال مرحلة الإعداد لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. أهمية مجلس العموم بين المجالس المخصصة للعب دور التشريع والرقابة والتمثيل في الدول التي تبنت هذا النمط من التمثيل البرلماني بالغة ولا يمكن تجاهلها. خلاصة الحكم المبكر تؤكد انحسار هذا الدور وتتنبأ بصعوبات شديدة سوف تواجه المجالس المشابهة.
استجدت أمور لم تكن موجودة. لم نعرف أن الوطنية الانجليزية يمكن أن تتعرض يوماً لتحدٍّ، يكشف ما أصابها من تغيير؛ بل تحول وانشطار في الرؤية مثل ما أصاب شعوباً أخرى في أوروبا خاصة والغرب عامة. أن يقول الشعب كلمته في موضوع الخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم تفشل الحكومة والبرلمان في تنفيذ إرادة الشعب نفسه الذي انتخبهما، لأقوى دليل في نظر الناس على خلل عظيم في نظرية التمثيل. من ناحية أخرى كانت التكلفة الباهظة لهذه التجربة، دليلاً على العجز الشديد في أداء الحكومات المنتخبة في القضايا الصعبة والمعقدة دبلوماسياً.
على الناحية الأخرى من الأطلسي واجهت التجربة التمثيلية، تحدّياً لم يكن أقل شأناً. هناك جاء إلى البيت الأبيض بالانتخاب، رئيس أثار الشكوك في صدق نواياه الديمقراطية. اعتمد الخط الذي سبقته إليه، كسياسي، أحزاب أوروبية عديدة. قضية ترامب، أو إحدى قضاياه، وهي في الوقت نفسه القضية المستترة في برامج الأحزاب القومية الأوروبية، تتعلق بالقناعة السائدة في صفوف قيادات مهمة في النخب عامة بأن الدولة فقدت مكانها في مجتمع الدول والأمة فقدت مكانتها بين الأمم،
ولا بد من استعادتها بكل الطرق. وإذا حالت القواعد الدستورية والقانونية دون تحقيق هذا الهدف، فإلى الجحيم هذه «الشكليات». أما العجز في احترام هذه الشكليات فيمكن تعويضه بسياسات «شعبوية».
لم يعد سراً الفشل الرهيب الذي حققته البرلمانات الحديثة، لوقف انهيارات الفساد المتلاحقة في مجتمعاتها. هناك مبالغة لا شك فيها من جانب القائلين بأن العالم لم يشهد من قبل فساداً بهذا الحجم والتنوع والاتساع، ولكنها مبالغة متناسبة مع التقارير الدولية. هي ربما نفس الدرجة من المبالغة في وصف حال الإعلام.
عالم الغد معقّد، وجديدُه وصلت طلائعه فعلاً ونراها الآن مشتبكة مع مؤسسات سياسية لم تتأهل لاستقبالها، ناهيك عن عدم الاستعداد للاشتباك معها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"