الصناعة طريق النهضة العربية

03:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

ارتبطت نهضة الشعوب كما ارتبط تميز الأمم بتأثير الصناعة المتوطنة على أرضها. ولقد عاصرت شخصياً مئات النماذج من أصحاب التفوق الصناعي وأدركت مدى إسهامهم في التنمية وفي اختيار من يدافعون عنها، فالأمر المؤكد هو أن الصناعة هي قاطرة التنمية وأنه لا غنى عنها مهما كانت الأسباب والعوائق لتحقيق شراكة المجتمع ككل في مشروع نهضوي يقوم على الصناعة الوطنية - ثقيلة أو خفيفة - ذلك أن الصناعة هي الضمان الوحيد لرقي الدول وتنظيم خطواتها نحو المستقبل، ويكفي أن نلقي نظرة على المجتمعات الصناعية في بدايتها لكي ندرك أنها مقدمات للتفوق الاقتصادي والتميز السياسي والقدرة على تحقيق الأهداف دون تراجع أو انكسار. ولعلنا نعترف الآن أن الثورة الصناعية الكبرى هي التي صنعت أوروبا الحديثة، وأن تجربة كل من محمد علي وجمال عبد الناصر في مصر قد اهتدت إلى أن الصناعة هي الطريق إلى المستقبل لأنها تعني ذلك التزاوج مع التعليم الذي يؤدي إلى التكنولوجيا التي ترتبط بكل عصر، لذلك فإنني أطرح الآن تصوراً للمستقبل العربي من خلال ازدهار الصناعة فيه وبالتعويل على مسيرة التصنيع في التجارب المختلفة له، دعنا نناقش الملاحظات الآتية:
*أولاً: لا يختلف اثنان على أن الصيد والرعي والزراعة تسبق في مجموعها الدخول إلى عصر الصناعة ولكن هذا الترتيب لا يعني أنها الأقل أهمية رغم أنها ليست الأقدم، فالثورة الصناعية هي الانقلاب الحقيقي الذي ظهر في أعقاب عصر النهضة الأوروبية وانتقل بدولها المتقدمة إلى مصاف جديدة، فالصناعة تعني التعامل مع الآلة التي تدفع من يعمل عليها إلى مزيد من الإتقان والتجويد مستعداً لها بالتعليم والتدريب. وإذا كانت المجتمعات الزراعية لها خصائص ترتبط بشخصية الريف في مواجهة الحضر فإن المجتمعات الصناعية لديها خصائص أخرى ترتبط بأطراف المدن وما يلحق بها من ضوضاء وزحام وصراع يومي بين وسائل الإنتاج وهو أمر لا تشهده المجتمعات الزراعية المعروفة بالهدوء والارتباط المباشر بالطبيعة، نقول ذلك لأننا ندرك أهمية الصناعة في تحديث العقل وتنوير الرؤية والانتقال من مرحلة الدعة البسيطة إلى مرحلة الحيوية المعقدة.
* ثانياً: تختصر الصناعة مراحل التقدم أحياناً، فالانتقال من مرحلة استخدام البخار إلى استخدام الكهرباء ثم إلى المرحلة الإلكترونية إنما يلخص القفزات الكبرى في حركة الإنسان إلى الأمام والموجات الصاعدة في تاريخ الصناعة، بل إن التعريف الدقيق لكلمة (تكنولوجيا) إنما يعني توظيف العلم في خدمة الصناعة ولا نكاد نعرف دولة ناهضة إلا والصناعة أحد المقومات الأساسية في انطلاقها صعوداً، ولا نكاد نعرف أيضاً دولة متخلفة أفرزت صناعة متقدمة فالعلاقة بين الصناعة والتقدم علاقة طردية.
* ثالثاً: إن الوعي السياسي يرتبط دوماً بتنامي الصناعة، ولعلنا نتذكر أن الثورة الماركسية - إذا جاز التعبير - كانت نتاجاً لأحداث الثورة الصناعية وظهور الطبقة العاملة والصراع بين العامل ورب العمل الذي تعبر عنه صيغة الاستغلال المعروفة بفائض القيمة أي تلك المستقطعة من حق العامل استغلالاً من صاحب العمل، لذلك فإن الصناعة هي التي تخلق الطبقة العاملة التي يؤدي ظهورها تلقائياً إلى ما يمكن تسميته الوعي السياسي نتيجة ميلاد الصراع الطبقي الذي ارتبط تاريخياً بالثورة الصناعية.
*رابعاً: لا تتحقق معدلات النمو العالية إلا في ظل صناعة نامية سواء أكانت ثقيلة أو حتى خفيفة، فالمعيار هنا يتركز أساساً على حقيقة مؤداها هو أن الصناعة تحدث طفرات معروفة في الدخل القومي وتجعل قضية التوزيع ومعدلاته قضية تابعة لغزارة الإنتاج وجودته، وهل يجادل أحد في أن الصين الحديثة إنما اعتمدت على الصناعة وإغراق الأسواق بالبضائع وفرض الاقتصاد الصيني على الواقع العالمي الذي لم يكن متاحاً من قبل؟! كما أن صناعة السلاح - على سبيل المثال - في الاتحاد السوفييتي السابق هي التي جعلت منه نداً للولايات المتحدة، فالطائرة والدبابة والمدفع كانت قواسم مشتركة في الدفع بالتجربة الصينية إلى الأمام، فالصناعة هي تعبير عن روح الأمة وفخر للشعب ومصدر للاعتزاز.
* خامساً: لا يزدهر التعليم والتدريب إلا في أحضان المجتمعات الصناعية حيث يبدو الأمر برمته جزءاً لا يتجزأ من منظومة الحداثة فكرياً وثقافياً واقتصادياً، بل إن النظام المصرفي لم يزدهر كما لم تتقدم حركة الائتمان في البنوك إلا من خلال المؤسسات الصناعية والمشروعات الكبرى، بينما اقتصر الأمر في علاقة البنوك بالزراعة والإقراض الخاص بالمحاصيل الزراعية التقليدية التي تمثل في معظمها شخصية المجتمعات الريفية، وتجسدها بنوك التسليف والائتمان الزراعي وهو ما عرفته مصر منذ قرن من الزمان ولكن الطفرة الحقيقية في البنوك المصرية إنما ارتبطت بعد ذلك بالاختراعات الصناعية والاكتشافات التي خرجت من عباءة التطور التكنولوجي.
إن الصناعة هي قرين التقدم وقاطرة التنمية، كما أنها أيضاً محرض قوي على الديمقراطية من خلال عمليات التحديث التي تدفع بها المجتمعات الصناعية نتيجة الوعي السائد في المناخ المحيط بالنقلة النوعية التي تحدث نتيجة النهضة الصناعية الكبرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"