الصين تغيرت والعالم لم يتغير

03:20 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

بعد أن فتح العالم أبوابه أمام الإنسان الصيني، باعتباره صاحب المعجزة التي أبهرت الجميع وشغلت المفكرين وألهمت المبدعين واستفزت السياسيين، عاد اليوم ليغلق أمامه تلك الأبواب، ويعيده ودولته إلى ما كانوا عليه قبل ٧٠عاماً، دولة معزولة، وشعب غير مرغوب فيه، وذلك بسبب فيروس انطلق من أحد مدنها (ووهان) وجاب الصين حاصداً الأرواح ومصيباً الآلاف، وعازلاً أبناء الأسرة الواحدة عن بعضهم البعض.
من الصين انطلق كورونا اللعين، فسارع العالم إلى عزل الصين بكل من فيها، وبلغ الرعب مداه إلى حد عزل المصابين عن ذويهم وأغلقت الصين بيوتاً ومدناً ومقاطعات، في إطار محاولات حصار الفيروس «المخيف».
عاشت الصين في عزلة حتى الخمسينات من القرن الماضي، وعانت كثيراً حتى نهاية السبعينات في محاولتها للانضمام إلى نادي كوكب الأرض، وبعد ذلك عرفت طريق النمو والتطور، لتنطلق ملتهمة كل ما يعترض طريقها. انطلقت اقتصادياً، وانفتحت اجتماعياً، وأصبحت مركز الجذب عالمياً، وصاحبة الاقتصاد الذي حقق فائضاً كاد أن يغمر الكوكب.
مدت يد العون «بشروطها» لكل من يحتاج إلى دعمها الاقتصادي، ونشرت مواطنيها كخبراء في الشرق والغرب، وفرضت شروطاً للاستثمار ولم تلق سوى الترحيب بقدراتها وبخبرات أبنائها، وهو ما أزعج القوة الأولى في العالم، الولايات المتحدة، فبدأ معها الرئيس ترامب حرباً تجارية، وسانده إعلام غربي لا يريد أن يتسيد الإنسان الأصفر العالم؛ ولكن حيل ترامب لم تجد نفعاً مع دهاء وهدوء شي جين بينج، لتهدأ تارة الحرب التجارية ثم تشتعل بعد أن اتخذ منها ترامب ورقة سياسية يستغلها انتخابياً.
تعرف تلك «الإمبراطورية» أن مصابها كبير، ومنذ البداية وصف زعيمها كورونا ب«الشيطان» الذي تخوض معه معركة شرسة، عندما قال خلال لقائه مع رئيس منظمة الصحة العالمية: «الوباء شيطان، ولا يمكننا أن نتركه يختبئ، لطالما تبنت الحكومة الصينية موقفاً منفتحاً وشفافاً ومسؤولاً، للكشف في أسرع وقت ممكن عن معلومات بشأن الوباء». وبالفعل صدقت الدولة وانتهجت الشفافية لأول مرة في تاريخها وكشفت عن كل الحقائق عن حربها مع كورونا ابتداء من الإحصاء اليومي لعدد القتلى والمصابين وانتهاء بالمناطق التي تعزلها، ولم تستثن من ذلك الحكايات الإنسانية عن المرضى والضحايا؛ لتؤكد أن الصين المصابة اليوم بكورونا، تختلف تماماً عن الصين التي أصيبت سابقاً بسارس وغيره من الأوبئة؛ حيث كانت تخفي وقتئذ عن العالم الكثير من الحقائق.
الصين أيضاً كانت واضحة عندما كشفت عن الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي سببها كورونا، ولم تقبل بأن تدفن رأسها في الرمال، فأعلنت عن خسائر اقتصادية غير مسبوقة بمئات المليارات في البورصة، وحالة الشلل التي أصابت مصانعها وأسواقها وشوارعها ومحالها، ناهيك عن رصد البنك المركزي الصيني ل ١٧٣ مليار دولار لجهود محاربة الفيروس، وهي ميزانية قد تفوق ميزانية أي حرب عسكرية دخلتها الدولة.
الصين تغيرت، لكن العالم لم يتغير، فكثيرة هي الدول التي لم تؤازر بكين في مصابها الجلل، وبداخلها أمنيات أن ينهي كورونا أسطورة المارد الصيني، وعديدة هي العلامات الكبرى التي أوقفت نشاطها في الصين سواء بشكل مؤقت أو دائم، أما بالنسبة للشعوب فحدث ولا حرج؛ حيث انتشرت موجات التنمر على الإنسان الصيني الموجود خارج بلده، وسخرت منه ومن تاريخه ومن ثقافته الغذائية والحياتية، وتعاملت معه على أنه ليس مصدراً لكورونا فقط، لكن لمختلف الأوبئة العالمية، وكأنه هو بذاته فيروس معدٍ!
الأزمة كبيرة، والمصاب عظيم، ولكن الضجيج الإعلامي والسياسي أكبر بكثير، أسهم بشكل أو بآخر في نشر حالة الذعر التي أصابت العالم، وحالة الارتباك التي عاشتها بعض الحكومات، تفوق تلك التي أصابت الحكومة الصينية. ومن المؤكد أن الدولة التي أدهشت العالم القديم بحضارتها وحكمتها، والعالم الحديث بمعجزاتها الاقتصادية، تستطيع أن تخرج من هذه الأزمة، ولن تخجل من إعادة النظر في بعض من موروثها الغذائي الذي قد يكون سبباً بظهور فيروسات عدة على أرضها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"