العقوبات الأمريكية حينما تصيب أقرب الحلفاء

05:03 صباحا
قراءة 3 دقائق
الغرامة الباهظة (9 .8 مليار دولار) التي على المصرف الفرنسي "بي .إن .بي باريبا" أن يدفعها للسلطات الأمريكية، عقاباً له على خرق قانون الحصار الاقتصادي الأمريكي لكوبا والسودان وإيران بين عامي 2002 و،2012 تكشف عن فضيحة قانونية وسياسية تطاول قوانين المقاطعة الاقتصادية التي تسنها واشنطن لمعاقبة من يناهض سياستها الخارجية . وقد أضحت مثل العقوبات ممارسة اعتيادية في العلاقات الدولية إلى درجة أن الفرنسيين لم يتحركوا ضدها رغم أنها أصابتهم مباشرة في وقت يعانون فيه ضائقة اقتصادية ومالية خانقة . أخطر من ذلك طلب الرئيس هولاند من نظيره أوباما التدخل لتخفيض قيمة الغرامة، كي تصبح "أكثر اتزاناً واعتدالاً"، ولكن الأخير رفض . وأخطر من الأخطر أن مصارف فرنسية أخرى يجرى التحقيق معها بالتهمة نفسها وقد تضطر لدفع غرامات مماثلة . والغرامة المذكورة أتت نتيجة "اتفاق حبي" بعد أشهر من المفاوضات بين السلطات الأمريكية والمصرف الفرنسي تفادياً لمثوله أمام المحاكم الأمريكية وتعرضه لعقوبات أكبر لا تقف عند حدود الغرامة المالية .
هذه السياسة الأمريكية المتعلقة بالعقوبات الاقتصادية التي طالت عدداً كبيراً من الدول هي ممارسة غير قانونية البتة . فالإطار الشرعي الوحيد في هذا المضمار هو الأمم المتحدة وبالتحديد مجلس الأمن الدولي، المخول وحده باتخاذ مثل هذه العقوبات تبعاً للمادة الأولى من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة . وقد وضع مجلس الأمن، في عام ،2013 ثلاثة عشر نظام عقوبات اقتصادية ومالية ضد دول وجماعات داخل الدول: تنظيم القاعدة، حركة طالبان، كوريا الشمالية، ساحل العاج، غينيا بيساو، العراق، إيران، لبنان، ليبيريا، ليبيا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، الصومال والسودان . ولم تكتف واشنطن بهذه اللائحة فكانت لها لائحتها الخاصة التي ضمت 70 بلداً ومنظمة، بطريقة تخلط بين الدقة والعشوائية في انتقاء الهدف .
هذا اللجوء إلى العقوبات الاقتصادية أضحى شكلاً اعتيادياً من دبلوماسية الإكراه التي تتبعها الولايات المتحدة وفقاً لمصالحها الظرفية أو الثابتة الاقتصادية أو السياسية . وهكذا على سبيل المثال لا الحصر كانت العقوبات ضد كوبا نتيجة لضغط اللوبي الكوبي المعادي لفيدل كاسترو في واشنطن، والعقوبات ضد إيران، بموجب قانون داماتو-كينيدي للعام ،1969 هدفت إلى حماية الاستثمارات الأمريكية من المنافسة الخارجية في مجال الطاقة . وكانت شركة "توتال" الفرنسية من المستهدفين الرئيسيين بهذا الإجراء، الأمر الذي استفز رئيس الوزراء الفرنسي وقتها ليونيل جوسبان، فأعطى الضوء الأخضر لهذه الشركة كي تستثمر بقيمة مليار دولار في النفط الإيراني، معلناً أن القوانين الأمريكية تطبق داخل الولايات المتحدة وليس خارجها .
ومن المعروف أن فرض تطبيق قوانين دولة ما على دول أخرى هو أمر مخالف للقانون الدولي . وواشنطن تعاقب رعايا دول بحجة أنهم تعاطوا التجارة مع دولة قررت الولايات المتحدة مقاطعتها أو معاقبتها . وبذلك فإن هذه الأخيرة تقوم بالتشريع للعالم أجمع، الأمر الذي يخالف أبسط قواعد القانون الدولي .
لقد احتج عدد كبير من الدول على هذه الإجراءات، والاتحاد الأوروبي دان مراراً هذا النمط من الإجراءات، لكنه، هو الآخر، انتهج إجراءات مماثلة  أو كان يحذو حذو الولايات المتحدة عندما تكون هذه الإجراءات متفقة مع مصالحه وسياساته . وفي 16 أكتوبر/تشرين الأول 2002 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً، بأغلبية 133 دولة ضد اثنتين (الولايات المتحدة و"إسرائيل") وامتناع دولتين عن التصويت (أستراليا وليتوانيا)، يعبر عن القلق إزاء "تداعيات الإجراءات الاقتصادية القهرية التي تفرضها الولايات المتحدة بشكل أحادي وخارج أراضيها، في مجال التجارة والتعاون المالي والاقتصادي" بالتحديد "لأنها تعيق بشكل جدي حركة التبادلات وحرية مرور الرساميل على المستويات الإقليمية والدولية" . وطلبت الجمعية العامة "إلغاء القوانين ذات الطابع الأحادي والمنوي تطبيقها خارج أراضي الدولة التي سنتها والتي تفرض على مجتمعات ورعايا دول أخرى، إجراءات اقتصادية قهرية خارجة على القانون الدولي" .
بالطبع لم تهتم الولايات المتحدة بهذا القرار ولا بالمواقف الدولية المنددة، فسيادتها تعلو على أي اعتبار آخر ولو كانت سيادة الدول الأخرى . كما أن احترام قواعدها وقوانينها في كل عملية تجري بالدولار الأمريكي مفروض على الجميع رغم أنها تجري خارج أراضيها . فالمصرف الفرنسي "بي .إن .بي باريبا" قام بعمليات مصرفية، بالدولار الأمريكي، احترمت القوانين والقواعد الفرنسية والأوروبية ولو أنها تجاهلت قانون المقاطعة الأمريكي .
وهكذا فان واشنطن تقدم المثال السيئ، الذي قد تحذو حذوه قوى عظمى أخرى، عن طريق استخدام قوتها، العسكرية والاقتصادية والمالية، ناهيك عن الدبلوماسية، إزاء الآخرين الأدنى مرتبة منها في تراتبية القوة، ولو كانوا أحياناً من أقرب الحلفاء .

د . غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"