العولمة الجديدة في عهد ترامب

01:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

اعتقد الكثيرون مع بداية هذه السنة، أن وصول السيد ترامب إلى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية، سيؤثر بشكل لافت في نظام العولمة الذي دعمته واشنطن منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وذلك انطلاقاً من التصريحات والمواقف الشعبوية التي عبّر عنها أثناء حملة الانتخابات الرئاسية، والمستندة إلى أولوية المصلحة الوطنية. لكن التطورات التي عرفها المشهد السياسي الأمريكي بعد مرور أكثر من 100 يوم على انتقال ترامب إلى البيت الأبيض، جعلت المراقبين يجمعون على أن الرئيس الجديد يطبق في واقع الأمر ما تفرضه المؤسسات السيادية الكبرى المتحالفة مع المجمع الصناعي - العسكري في واشنطن، لاسيما وأن مصالح الولايات المتحدة تعتمد في الأساس على مطالبتها لشركائها الاقتصاديين الكبار بالمحافظة على مبدأ حرية المبادرة الاقتصادية وحرية انتقال رؤوس الأموال الذي يخدم بشكل واضح مصالح الشركات المتعددة الجنسيات التي يوجد أكثر من ثلثيها فوق الأراضي الأمريكية.
وعليه فإنه وفضلاً عن تراجع ترامب عن الكثير من مشاريعه المتعلقة بوضع قيود على حركة المبادلات التجارية ما بين الولايات المتحدة والقوى الاقتصادية الكبرى، فإنه قد أعاد فجأة الاهتمام بالذراع العسكرية والأمنية للولايات المتحدة عبر العالم والمتمثل في حلف الناتو، وهو الآن بصدد إعادة إحياء الدور المحوري للولايات المتحدة تجاه كل الملفات الدولية الكبرى بما فيها ملف الصراع في منطقة الشرق الأوسط والأزمة السورية.
وتعكس الزيارة المقبلة لترامب إلى المنطقة العربية، مقدار التحوّل الجديد الذي حدث على مستوى التوجهات السياسية للإدارة الأمريكية الجديدة، التي تسعى الآن إلى الاحتفاظ بأهم خيوط المعادلة السياسية في الشرق الأوسط، تزامناً مع اهتمامها المتصاعد بمنطقة شرق آسيا وبتداعيات الأزمة النووية مع كوريا الشمالية.
ومن الواضح، بحسب التحليلات التي يقدمها أغلب المتابعين لتحولات السياسة الدولية، أن تصريحات ترامب المتعلقة بالسياسية الحمائية لواشنطن، كانت إجرائية إلى حد بعيد وهدفت إلى رفع أسهم وول ستريت، وإلى الحصول على شروط أكثر ربحية للشركات الأمريكية في سياق حركة التجارة العالمية وبخاصة مع الصين والاتحاد الأوروبي واليابان، واستطاعت السياسة الهجومية للسيد ترامب أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه كبريات المؤسسات الاقتصادية الأمريكية، وذلك في سياق سعي الإدارة الجديدة إلى تحويل القوة العسكرية والسياسية الأمريكية إلى أداة فعالة ومهمازاً في خدمة المصالح الاقتصادية الكبرى للشركات المتعددة الجنسيات في واشنطن. وبالتالي فقد أضحت القوة الأمريكية الآن، وبشكل أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، تمثل عاملاً جد مؤثر في العملية الاقتصادية الجديدة ومعدِّلاً لمسار العولمة الذي انحرف بعض الشيء، وأصبح في خدمة كيانات اقتصادية أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي. وقد جاء هذا التوجه الجديد ليؤكد أن الإدارة الأمريكية لا تريد ولا تستطيع التخلي عن مسار العولمة، لكنها تسعى في المقام الأول إلى جعل هذه العولمة في خدمة المصالح الأمريكية عبر العالم.
إن المنطق السليم يؤكد أن الممارسة التجارية عادة ما يكون فيها رابح وخاسر ويبدو أن ترامب قد أراد أن يجعل اقتصاد بلده رابحاً على طول الخط، وهذا ما يفسر جزئياً تراجع مواقفه المناهضة للاتحاد الأوروبي والمؤيدة للبركسيت، وبخاصة عندما ذكّرته ميركل بأن مستوى المبادلات التجارية لواشنطن مع الاتحاد الأوروبي، يصل إلى 700 مليار دولار في الوقت الذي يظل هذا المستوى منحصراً في حدود 90 مليار دولار في السنة مع بريطانيا.
يمكن القول بناءً على ما تقدم إن مسار العولمة الأمريكية عرف مؤخراً بعض التعديل ولكنه لم يتراجع بأي شكل من الأشكال، لأن غواية الانعزال التي نلفيها لدى الكثير من الدول التي تخشى من المنافسة الاقتصادية غير المتكافئة، لا تصدق تجلياتها على الحالة الأمريكية التي تملك بشكل واضح بدائل القوة الضرورية القادرة على التأثير في مسار العولمة وتستطيع من ثمة أن تمارس مزيداً من الضغط من أجل تعديل مواقف الآخرين من هذه العولمة، وبخاصة وأن عناصر القوة الناعمة التي تمتلكها واشنطن أقوى بكثير من عناصر القوة المادية التي أبانت عن محدوديتها في مناسبات عديدة.
كما يمكننا أن نزعم في الأخير أن حديثنا عن إعادة تفعيل القوة الأمريكية من أجل تعديل مسار العولمة، لا يعني بالضرورة أن واشنطن ستصل إلى تحقيق أهدافها بشكل كامل وفق شروط تتعارض جملة وتفصيلاً مع مصالح شركائها الاقتصاديين الكبار، ولكن يتعلق الأمر في اعتقادنا بمحاولة إعادة تأسيس «العقد الاجتماعي» للعولمة، وفق أسلوب أكثر توازناً يحمي المصالح التجارية لواشنطن دون الإضرار بالمصالح التجارية الكبرى للتكتلات الاقتصادية الأخرى وفي مقدمها الاتحاد الأوروبي والصين. ويبدو أن اللقاءات التي أجراها ترامب مؤخراً مع أبرز زعماء العالم، مثلت خطوة أولى في اتجاه التوافق على عناصر هذا العقد الجديد؛ الذي يرمز إلى بداية عصر عولمة جديدة مختلفة جزئياً عن مسار العولمة السابقة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"