الـ «بريكست» أمام حائط مسدود

03:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.غسان العزي

منذ الاستفتاء في 23 يونيو/‏حزيران 2016 على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، تعاني المفاوضات بين الطرفين التعثر،كما تعاني الحكومة البريطانية الانقسام،والذي كانت آخر تجلياته استقالة وزيري البريكست ديفيد ديفيس، والخارجية بوريس جونسون، احتجاجاً على سعي رئيسة الحكومة تيريزا ماي إلى المحافظة على علاقات اقتصادية وثيقة جداً مع الاتحاد الأوروبي بعد البريكست.
في بداية مفاوضات الخروج، كانت وجهات النظر داخل داوننغ ستريت متفقة على أن «البريكست يعني البريكست»، كما صرحت آنذاك رئيسة الوزراء. وقد وعد أنصار البريكست أن تتخلص بريطانيا من مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية بعد تحررها من القيود الأوروبية. أعلن الوزير ديفيس وقتها أنه «في السنتين المقبلتين نستطيع التفاوض حول منطقة تبادل حر أوسع بكثير من الاتحاد الأوروبي»،وأضاف وزير التجارة وليام فوكس أن «الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي(حول البريكست) سيكون من أسهل الاتفاقات التي يتم التوصل إليها في تاريخ البشرية». فالأوروبيون،في رأيه،جاهزون لكل التنازلات كي يبيعوا سياراتهم وأجبانهم إلى البريطانيين. وهذا الرأي انتشر خلال حملة الاستفتاء على البريكست.
بعد عامين على هذه الوعود والآمال لم تعد منطقة التبادل الحر الأوسع على جدول الأعمال. فالاتحاد الأوروبي حظّر على لندن التفاوض مع طرف ثالث، طالما أنها لا تزال في الاتحاد. أما الهند،وهي الأرض الموعودة بحسب «البريكستيين» فإنها أبت تقديم أي تنازل تجاري قبل حصولها على المزيد من تأشيرات الدخول لرعاياها إلى المملكة المتحدة. وجاءت الحمائية الأمريكية، لتزيد الطين بلة بتأثيراتها السلبية على الاقتصاد البريطاني.
أما «الاتفاق السهل» مع الأوروبيين فلم يبدأ النقاش حوله إلا في مارس/‏آذار الماضي، وقد لا يتم التوصل إليه قبل نهاية مارس/‏آذار المقبل تاريخ الخروج البريطاني الرسمي من الاتحاد وشريطة أن تتم إزالة العائق الكبير المتمثل بالحدود الإيرلندية مع المملكة المتحدة، وهي مسألة لم يحسب لها البريكستيون الحساب.
خلال حملة الاستفتاء وعد البريكستيون بأن الخروج من الاتحاد سيؤمن استعادة 350 مليون جنيه أسبوعياً تستخدم لدعم نظام الصحة العامة. لكن ماي عادت واعترفت بأنه ينبغي فرض ضرائب جديدة لإصلاح هذا النظام. وتبين بحسب ديوان المحاسبة أن لندن ستخسر حوالي 300 مليون جنيه أسبوعياً بسبب البريكست.
وفي «الكتاب الأبيض» الذي أعلنته ماي في بداية الشهر الجاري عرضت البقاء في الاتحاد الجمركي وفي السوق الأوروبية،لكن شريطة أن ينحصر ذلك بالبضائع والسلع (حيث للدول الأوروبية الأخرى فائض تجاري مع المملكة) وليس بالخدمات( حيث للمملكة فائض تجاري ويمكن لها عندئذ التهرب من القواعد الأوروبية). لكن ميشال بارنييه،ممثل الاتحاد الأوروبي في المفاوضات، أعلن أن الفترة الانتقالية ليست أمراً محسوماً بعد، وأن على بريطانيا أن تتحمل نتائج خروجها من الاتحاد، والذي لن يوافق على مطالبها إلا في مقابل تنازلات تقدمها في مجال حرية التنقل.
هناك «سكيزوفرينيا» بريطانية كما كتبت «الفاينانشيال تايمز»،تتمثل في رغبة لندن الخروج من الاتحاد مع الاستمرار في الاستفادة من حسنات البقاء. وقد تسبب ذلك ليس فقط بتعثر المفاوضات مع الأوروبيين، ولكن أيضاً باستقالة أحد عشر وزيراً من حكومة ماي خلال ثمانية أشهر، وذلك لأسباب مختلفة. فقد انقسمت هذه الأخيرة بين مؤيدي مشروع غامض حول «بريطانيا عظمى مالية» مفتوحة على التبادل الحر الواسع من جهة،والساعين إلى خروج ناعم من أوروبا يحافظ على علاقات وثيقة معها من جهة أخرى.
زيارة الرئيس ترامب إلى لندن جاءت لتزيد الطين بلة. فعلى الرغم من الحفاوة البالغة التي استقبلته بها ماي لم يتردد في إهانتها ولومها لأنها لم تستمع إلى نصائحه وتحذيرها بأن مخططها لإقامة علاقات تجارية وثيقة مع الاتحاد الأوروبي سيقتل إمكانية التوصل إلى اتفاقية تبادل حر مع واشنطن التي ستفضل عندئذ التعامل مع الأوروبيين،كما أنه امتدح جونسون المستقيل الذي قد يشكل في رأيه «رئيس وزراء عظيماً»،ما دعا أحد الوزراء إلى التغريد «قليل من اللياقة مستر بريزيدانت».
تقف تيريزا ماي اليوم أمام خيار صعب بين أوروبا القارية و«الواسع العريض» بحسب تعبير تشرشل،أو ربما الاستقالة والانتخابات المبكرة التي قد تفضي إلى حكومة جديدة تعيد النظر بالبريكست.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"