الفكر العربي في عالم متحوّل

02:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

يشهد العالم في بدايات التسعينات من القرن المنصرم مجموعة من التحولات السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبرى، التي نجمت عن انهيار الاتحاد السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة التي عمت زهاء نصف قرن من الزمن، فقد تراجع الهاجس العسكري، ولم يعد هناك مجال للصراع الأيديولوجي، أمام تشبيك العلاقات الاقتصادية، وتنامي أدوار الشركات الكبرى العابرة للحدود. وعلى المستوى السياسي، انخرطت الكثير من الدول في إرساء إصلاحات مهمة تدعم الانتقال الديمقراطي.
وبالموازاة مع هذه المتغيرات، برزت الكثير من الاجتهادات الفكرية والعلمية، التي حاولت تفسير الواقع الدولي الجديد بكل تجلياته الثقافية والاجتماعية والسياسية والتنبؤ بمآلاته.. وهكذا ظهرت كتابات تبشّر بالعولمة وفرصها، فيما حرص مفكرون آخرون على نقد هذه الأخيرة، وإبراز تداعياتها على الكثير من المجتمعات وعلى خصوصياتها..
وعلى المستوى الاستراتيجي، ظهرت مقولات فكرية جديدة تواكب واقع الانفراد الأمريكي بقيادة العالم، كما هو الأمر بالنسبة لمقولة نهاية التاريخ التي طرحها الباحث الأمريكي «فرانسيس فوكوياما»، مشيراً فيها إلى أن نهاية الحرب الباردة هي انتصار للديمقراطية والليبرالية في مواجهة النظام الاشتراكي، وإلى أن التطور الديمقراطي هو أرقى ومنتهى التطور الإنساني، أو صدام الحضارات التي يرى من خلالها المفكر الأمريكي «صامويل هنتنغتون» أن الصراعات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة ستكون بين الأمم والمجموعات الثقافية والحضارية المختلفة لا بين الدول، وتنضاف إلى ذلك مقولة «القوة الناعمة» التي تحيل إلى التأثير والجذب؛ عبر سبل اقتصادية وثقافية؛ لكسب معارك وتحقيق مصالح مختلفة، وكذلك نظرية «الفوضى الخلاقة» كإحدى المقولات الجديدة التي طرحها الفكر الاستراتيجي المعاصر؛ للتعاطي مع عدد من القضايا والملفات المعقدة في عالم اليوم..
وفي خضمّ هذه التراكمات المعرفية التي اتخذت أبعاداً متسارعة، مع تزايد الاهتمام بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبروز مخاطر كبرى عابرة للحدود، تهدّد الإنسانية جمعاء، طرحت الكثير من الأسئلة بصدد انخراط الفكر العربي في هذه الدينامية ومدى قدرته على مواكبة هذه المتغيرات، وتقديمه لإجابات ورؤى حول الكثير من الإشكالات المطروحة في المنطقة، وبخاصة وقد باتت هذه الأخيرة على امتداد العقود الأخيرة ضمن المناطق الأقل تفاعلاً مع ما شهده العالم من تطورات تقنية واقتصادية وسياسية..
مثلت الموجة الأولى من «الحراك» الذي عرفته العديد من الأقطار العربية منذ عام 2011 محكّاً حقيقياً؛ لقياس جاهزية مصداقية النخب المثقفة، وقد عبر جزء منها عن مواقف سلبية من الحراك.. وبدا حضورها خافتاً، رغم بعض النقاشات الفكرية والفلسفية المهمة التي طرحت بشأن بعض القضايا، كما هو الأمر بالنسبة لمسألة الحريات وعلاقة الدين والدولة والإصلاح الدستوري وتمكين المرأة..
ويبدو أن جزءاً من المسؤولية فيما آل إليه الفكر العربي تتحمّله ظروف الاستبداد التي انعكست بالسلب على أداء الفكر والإبداع بشكل عام، وهمشت إسهاماتها المفترضة في تنوير المجتمع وفي تحقيق التنمية.. كما لا تخفى تأثيرات الجماعات المتشددة في هذا الخصوص، وبخاصة على مستوى إطلاق عدد من الفتاوى، التي كان لها الأثر الكبير في ترهيب عدد من النخب، والحيلولة دون انخراطها في النقاشات العمومية حول مختلف القضايا الحيوية في المجتمع.
وفي هذا السياق، نظمت «مؤسسة الفكر العربي» ندوة فكرية بمدينة الرباط على امتداد يومين، تحت عنوان: «نحو فكر عربي جديد»، بمشاركة عدد من الباحثين والمفكرين من الدول المغاربية، وقد توزّعت أشغال النّدوة إلى جلسة افتتاحية أشار خلالها مدير المؤسسة د.هنري العويط إلى أن هذا اللقاء يسعى إلى إعادة الاعتبار للفكر، كأداة التنوير، وقاطرة للتطوير، ورافعة للتنمية، وإلى إثارة الوعي بخطورة ما تشهده المنطقة من تحدّيات تفرض التسلح بمناهج جديدة، وتجنيد الإمكانات المتاحة في سبيل إرساء فكر جديد.. وهي المسؤولية التي يتحملها المفكرون والمثقفون.. وإلى ست جلسات علمية، طرحت خلالها الكثير من الأفكار والأسئلة والتصورات التي سعى المتدخلون من خلالها إلى تشريح الواقع العربي، وطرح إشكالات كثيرة من قبيل «العرب والمتغيرات الكبرى في عالم اليوم»، و«الفكر العربي وتحولات الفكر في العالم»، و«أسئلة التحديث والتنمية».
وقد أسفرت الندوة عن خلاصات مهمة؛ حيث تم تأكيد ضرورة امتلاك الشجاعة الكافية لنقد الأدوات الفكرية الراهنة، وكشف التناقضات، وتفكيك أسباب التغيّرات، كسبيل لمواجهة التحديات الراهنة في عالم يتسم بالتحوّل والتغيّر والتأثّر.. فيما تم التوقّف أيضاً عند أهمية تعزيز التكامل في السياق العربي كمدخل لتجاوز حالة الهدر الحالي، التي تعمقها تدخلات العديد من القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، ما يفرض الاستئناس بمواقف وآراء المفكرين والباحثين في هذا الصدد.
وأشارت بعض المداخلات إلى أن الفكر العربي لم يتمكن بعد من التخلص من إرث الماضي، ولم يواكب الحداثة بكل تجلياتها، مما نتج عنه عدم القدرة على تحديث التراث، فيما دعت أخرى إلى أهمية بلورة مناهج فكرية جديدة تسمح باستيعاب المتغيرات الاجتماعية والتطورات الدولية في التعاطي مع عدد من القضايا، كما هو الشأن بالنسبة لمسألة الحريات وتدبير التنوع، والتواصل مع الآخر، وتفسير تحولات «الحراك العربي»..
ولم تخل المداخلات من مقترحات بشأن تطوير وتجديد الفكر العربي، سواء من خلال تعزيز الهويّة العربية الإسلامية المنفتحة، إرساء رؤية جديدة للواقع العربي، وعدم التدخل في شؤون الشعوب واحترام إرادتها الحرّة، وترسيخ حماية حقوق الإنسان العربي..، أو تدارك الفجوة الرقمية وتجاوز الخطابات الشعبوية، ونقد وتفكيك العديد من المقولات التي تحوّلت إلى يقينيات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"